ما حدث في الاسبوعين الماضيين على الساحة الفلسطينية يدفع باتجاهين مختلفين تماما: فهو يؤكد ان 70 عاما من الاحتلال الاسرائيلي وما حظي به من دعم غربي متواصل وغير مسبوق لم يحسم الموقف لصالح المحتلين وداعميهم، وان الشعب الفسطيني ما يزال متمسكا بارضه ومستعدا لتقديم التضحيات من اجلها. ومن جهة اخرى فان ردود الفعل العربية تصيب المرء بالكآبة لغياب المواقف المسؤولة ليس من جانب الانظمة فحسب، بل حتى من الشعوب نفسها. فأين هي المشكلة حقا؟ وما طبيعة خريطة التوازنات الايديولوجية والسياسية التي ادت لهذا التغير في المزاج العام بعيدا عن الاهتمام بقضايا الامة خصوصا قضية فلسطين؟
جاءت مسيرات العودة العملاقة لتؤكد حقائق عديدة: اولها ان هناك جرائم لا تتساقط بالتقادم. فكما ان جرائم القتل والتعذيب تبقى قائمة تطارد مرتكبيها، فان الاحتلال هو الآخر يبقى احتلالا وان سعى لتغيير الحقائق على الارض، سواء بامتلاك القوة العسكرية الهائلة ام تغيير طبيعة الارض وقضم المزيد منها، ام بتشريد السكان الاصليين ام باستقدام المستوطنين من كافة اصقاع الارض، ام بالتحالف مع قوى الاستبداد والظلم من الدول المجاورة التي لا تحظى بدعم شعوبها وتسعى للبقاء عبر توافقات وتحالفات حتى مع الشيطان من اجل البقاء. ثانيها: ان الشعب الفلسطيني اثبت انسانيته للمرة الألف وتشبثه بارضه وتوارث تلك المشاعر عبر الاجيال. فالسبعون الذين استشهدوا هذه المرة كانوا اطفالا، ربما من الجيل الثالث او الرابع بعد الاحتلال. هذا يعني ان التمسك بمبدأ التحرر والشعور بالانتماء للارض والثقة الراسخة بحتمية النصر وعودة الحق لاهله، قد اختلط بالخريطة الجينية لتلك الاجيال، وان الاحتلال لا يملك من القوى سوى المادي منها. ثالثها: ان دماء الشهداء ابلغ من كافة اسلحة الاحتلال واعوانه. وان سقوط شهيد واحد يرسم في الارض والذاكرة والضمير عنوان القضية التي استشهد المرء من اجلها. يتساوى في ذلك محمد الدرة الفلسطيني ورايتشيل كوري الامريكية ومحمد جمعة الشاخوري. هؤلاء جميعا سقطوا من اجل فلسطين. كما لا يختلف في ميزان الشهادة من سقط اغتيالا في المنافي سعيد حمامي (لندن 1978) ام خليل الوزير (ابوجهاد، تونس 1988) ام ابو علي اياد (الاردن 1971) او محمود المبحوح (الامارات 2010) او من اي من السبعين الذين استشهدوا في مسيرات العودة هذا العام داخل فلسطينن نفسها. هؤلاء جميعا سقطوا شهداء على طريق تحريرها. ثالثا: ان قضية الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين اظهرت حقيقة مذهلة يفضل الطغاة وحكام الجور وقوى الاحتلال عدم التفكير الجدي فيها، وهي ان القوة العسكرية الاسرائيلية والهيمنة السياسية الغربية والتواطؤ الدولي منذ الاعتراف بقيام كيان الاحتلال، كل ذلك لم يستطع التأثير على الرأي العام الدولي، ماضيا وحاضرا. فما تزال شعوب العالم تقف مع الشعب الفلسطيني وترفض الاعتراف بالكيان الاسرائيلي برغم الاعتراف الرسمي من قبل الانظمة. هذا الاعتراف انما جاء استجابة للضغوط من بعض الانظمة العربية المتخاذلة التي تستخدم المال النفطي الهائل لفرض اجندتها على الانظمة الفقيرة والانتهازية. وما الاحتجاجات التي خرجت في عواصم العالم في الاسبوعين الماضيين احتجاجا على الجرائم الاسرائيلية الا تأكيد لحقيقة ان دماء الشهداء اقوى أثرا من سلاح المحتلين والغزاة.
سبعون عاما هي عمر الاحتلال، وكذلك عمر صحوة الضمير الفلسطيني الذي توارثته الاجيال منذ النكبة، مرورا بالنكسة وصولا الى العدوان المستمر الذي تشارك فيه هذه المرة انظمة عربية، اما بالتواطؤ العملي ام التطبيع مع كيان الاحتلال، ام فتح الاجواء لعبور طيرانها، ام ضرب قوى المقاومة للاحتلال، ام استغلال المليارات النفطية لانشاء امبراطوريات اعلامية تهدف لتخدير الشعوب العربية وابعادها عن الشعور بالانتماء للقدس وقضية فلسطين، ام فرض قوانين صارمة تستهدف من يتعاطف مع القضية او يقف ضد السياسات العدوانية لهذه الانظمة. محور الشر والفساد هذا يسعى لفرض اجندات ايديولوجية وسياسية على امة العرب والمسلمين، لابعادهم عن القضية الاساس التي توحدهم وتجعلهم قوة عملاقة. ومنذ سبعة اعوام تحرك تحالف لقوى الثورة المضادة لمواجهة الشعوب العربية المطالبة بالحرية والعدالة والديمقراطية، بوحشية غير مسبوقة، فاكتظت السجون بعشرات الآلاف من فرسان الميادين، وتشكلت نواة «التحالف» لتمارس بلطجة سياسية وامنية وايديولوجية ودينية . استهدف هذا التحالف المجموعات الاسلامية والوطنية المعتدلة ذات الامتداد التاريخي والشعبي، وفرض قوانين الارهاب الخاصة به لتستهدف النشطاء الذين رفضوا مسايرة المشاريع الثقافية والسياسية الهادفة لتدمير الامة التي كانت الرديف الاقوى لقضية فلسطين، وتحالفت، للمرة الاولى منذ سبعين عاما، مع قوات الاحتلال بوقاحة مكشوفة عبر عنها احد وزراء خارجية دول هذا التحالف عندما اطلق اخطر تصريح دافع فيه عن «حق اسرائيل في حماية ارضها» متجاهلا فلسطين وارضها واهلها. وللمرة الاولى بعثت دولتان من هذا التحالف فريقيهما للمشاركة في سباق الدراجات بضيافة قوات الاحتلال. وشهدت السنوات السبع الاخيرة سعيا متواصلا لتغيير بوصلة الامة وافتعال ساحات جديدة للخلاف والقتال غير فلسطين، فقامت الحرب العدوانية على اليمن التي تعاني اكبر كارثة انسانية في الوقت الحاضر، وبذلت المليارات لاستهداف ايران بدعاوى مازجت ما بين السياسة والدين، تم التخلي عن بعضها مؤخرا، واعتبرت دولة قطر عدوا لدودا يتجاوز في خطره «اسرائيل» التي تحتل ارض المعراج وترتكب المجازر اليومية بحق شعبها. انها انقلابات متواصلة على ثوابت الامة ومحاولات لا تتوقف للتأثير على مفاهيمها وقيمها. والهدف الذي اصبح معروفا لدى شرفاء العالم حماية الاحتلال والتطبيع معه، وضرب مشاريع التغيير السياسية الهادفة للقضاء على الاستبداد والفساد.
سبعون شهيدا من فلسطين هذه المرة التي لم يتجاوز الحراك فيها خروج مسيرات سلمية على الحدود بين غزة وبقية ارض فلسطين المحتلة. تساقط الشهداء، الواحد تلو الآخر، برصاص الاحتلال، وشاهدت شعوب العالم على شاشات التلفزيون مجازر رهيبة هزت الضمائر وأعيت القلوب. وحدها كانت الولايات المتحدة، على لسان ممثلتها لدى الامم المتحدة، تكيل المديح لـ «اسرائيل» التي «تصرفت بضبط اعصاب» لأنها قتلت المتظاهرين بالرصاص الذي اطلقه قناصتها من الدبابات او الطائرات العمودية ولم تطلق عليهم قنابلها النووية. مشاهد الامهات الفلسطينيات وهن يندبن ابناءهن هزت مشاعر العالم، ولكنها لم تؤثر على المسؤولين في دول تحالف المتفرعنين. لقد صمت هؤلاء على واحدة من كبريات الجرائم الامريكية: نقل سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب الى القدس. تميزت تركيا وجنوب افريقيا بموقفيهما اذ سحبتنا سفيريهما لدى الكيان الاسرائيلي. بينما لم تفعل مصر او الاردن ذلك. وبدلا من وقوف مصر مع قوى المقاومة الفلسطينية مارست ضغوطا على المجموعات الفلسطينية خصوصا حماس لوقف مسيرات العودة التي اعادت قضية الاحتلال الى الواجهة مجددا، الامر الذي يرى فيه التحالف الرباعي مع امريكا تقويضا لجهود التسوية والتطيبع مع «اسرائيل».
الامر الذي ازعج هذا التحالف ان هذا التطور الخطير جاء ردا قويا على نقل السفارة الامريكية الذي حظي بمباركة صامتة من دول التحاف الرباعي التي لم تصدر اي احتجاج ذي اثر، وكأن شيئا لم يحدث. هذا الاحتضان للرئيس الامريكي ومشاريعه وسياساته يناقض مواقف دول العالم وشعوبها التي لا تخفي انزعاجها من سياسات البيت الابيض منذ وصول ترامب اليه.
الحقيقة ان استمرار الوعي والارادة لدى اهل فلسطين سيظل العقبة الكأداء التي تتكسر عليها احلام المحتلين والطامحين للهيمنة على العالمين العربي والاسلامي، سواء بالقوة العسكرية ام المال النفطي الذي تحرم منه الشعوب ويجد طريقه للخزانات الغربية.
القد س العربي