طهران وأخطار التوسّع فوق الطاقة

أربعاء, 2018-05-23 11:47
جلبير الأشقر

قبل ثلاثين عاماً، صدر كتابٌ سميك للمؤرخ البريطاني ـ الأمريكي بول كيندي تصدّر قائمة المبيعات في حينه، وقد نُقل إلى العربية تحت عنوان «نشوء وسقوط القوى العظمى». وشأنه في ذلك شأن كافة الكتب غير الخيالية الأكثر مبيعاً عند صدورها، كان رواج كتاب كيندي عائداً لتناسبه مع «روح الزمن». في ذلك الزمن، كانت تسود في الغرب مخاوف من أن سياسة التصعيد الأقصى للنفقات العسكرية التي انتهجتها إدارة الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان سوف تؤدّي إلى خراب اقتصادي وتفاقم «أفول الإمبراطورية الأمريكية» الذي بلغ الحديث عنه ذروة في عهد الرئيس السابق جيمي كارتر. 
وتكاد أطروحة الكتاب الرئيسية تكون بديهية: هي الفكرة القائلة إن المبالغة في التمدّد فوق الطاقة تؤدّي إلى الانهيار. بيد أن الوقائع دحضت تنبؤ الكاتب بالآثار السلبية لنفقات ريغان العسكرية، إذ أن الغاية من تلك النفقات كانت تحديداً تنشيط الاقتصاد الأمريكي من خلال الإنتاج والتكنولوجيا في الحقل العسكري (الذي بات ممزوجاً بالمدني في العصر الإلكتروني)، ودفع الاتحاد السوفييتي إلى الهاوية لعلم واشنطن أن اقتصاده كان في احتضار. وقد نجح رهان ريغان في الحالتين حيث عادت الولايات المتحدة إلى صدارة النموّ الاقتصادي العالمي بدءًا من عهده وفي العقدين اللاحقين، واندثر الاتحاد السوفييتي إلى غير رجعة. والحقيقة أن أطروحة كيندي البديهية إنما انطبقت على الاتحاد السوفييتي وليس على الولايات المتحدة، إذ أن تصاعد النفقات العسكرية من خلال حرب أفغانستان وسباق التسلّح مع واشنطن ساهم مساهمة كبيرة في تسريع انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان مصاباً بركود اقتصادي مزمن منذ السبعينيات. 
والمقصود من شرحنا لما سبق هو التذكير بأن التاريخ لا يرحم الإمبراطوريات التي تتمدّد بما يفوق طاقاتها. ونحن اليوم إزاء حالة من هذا القبيل في منطقتنا، إذ أن النظام الإيراني أخذ يخوض في التمدّد العسكري والتوسّع الإمبراطوري منذ أن أتاحت له إدارة جورج دبليو بوش فرصة الهيمنة على العراق قبل خمسة عشر عاماً. وقد تفاقم الأمر بعد أن خلقت الانتفاضة العربية الكبرى لعام 2011 ظروفاً من انفراط عقد بعض الدول، انتهزتها طهران للتمدّد في سوريا وبعدها في اليمن. والحال أن السياسة التوسّعية الإيرانية هي الحجة الأقوى لدى إدارة دونالد ترامب في تبرير الهجوم الذي شنّته هذا الشهر على إيران، بدءًا بنقض الاتفاق النووي الذي أبرمته مع طهران إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما. وسوف تلي ذلك بالتأكيد إجراءات تصعيدية شتى، اقتصادية وعسكرية، بمشاركة إسرائيل حليفة واشنطن في الجانب العسكري. 
فلو وضعنا جانباً الحجج غير المُقنعة الخاصة بالملف النووي عينه، تبقى الحجة الدامغة لدى إدارة ترامب في تعاملها مع حلفاء أمريكا الأوروبيين المتمسّكين بالاتفاق، تلك التي لخّصها وزير خارجية ترامب مايك بومبيو في المحاضرة التي ألقاها قبل يومين، قائلاً إن الاتفاق النووي «لم يردع مسعى إيران وراء هيمنة إقليمية»، بل «رأى قادة إيران في الاتفاق إشارة لانطلاق مسيرتهم عبر الشرق الأوسط». وقد عدّد بومبيو الساحات التي غدت طهران تتدخّل فيها بصورة مباشرة: لبنان وسوريا والعراق واليمن وأفغانستان. ومثلما كانت إدارة ريغان تعلم علم اليقين أن الاتحاد السوفييتي لم يعد قادراً على الاستمرار في السباق الإمبراطوري، تعلم إدارة ترامب أن إيران هي أيضاً أعجز من أن تستطيع الاستمرار في نهجها التوسّعي. وقد كان كلام بومبيو في محاضرته قبل يومين واضحاً تماماً في هذا الصدد:
«سوف تُضطرّ إيران إلى الخيار: إما تكافح من أجل إبقاء اقتصادها فوق حالة الخطر في عقر دارها أو تستمرّ في تبديد ثروة ثمينة في الكفاحات في الخارج. فلن تكون لديها الموارد الكافية لممارسة الأمرين معاً… الاقتصاد الإيراني في وضع حرج بسبب قرارات إيرانية سيئة. العمّال لا يتقاضون أجورهم، والإضرابات تحصل يومياً، والريال يتدهور. وبطالة الشباب بلغت مستوى 25 بالمئة المذهل… وقد أظهرَت الاحتجاجات في الشتاء الماضي أن العديدين مستاؤون من النظام الذي يحتفظ لنفسه بما يسلبه من شعبه. والإيرانيون مستاؤون أيضاً من نخبة النظام التي تخصّص مئات ملايين الدولارات لعمليات عسكرية وجماعات إرهابية في الخارج بينما يصرخ الشعب الإيراني من أجل حياة بسيطة مع وظائف وفرص وحرية».
ولن يساعد إيران على الإطلاق أن تكون حليفتها الرئيسية الراهنة في سياستها الإقليمية، ألا وهي روسيا، على أتمّ الاستعداد لعقد صفقة مع إدارة ترامب والأوروبيين تُخرج إيران من سوريا بموجبها لقاء وقف العقوبات المفروضة عليها والمساومة على ملف القرم وأوكرانيا. بكلام آخر، فإن موسكو مستعدة للإسهام في شدّ الخناق على عنق إيران بغية فكّه عن عنقها هي. وقد كان لافتاً جداً تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عند استقباله بشّار الأسد في سوتشي قبل ستة أيام أنه سوف ينبغي على كافة القوات الأجنبية (باستثناء قوات بلاده المتواجدة في سوريا منذ عقود عديدة، طبعاً) أن تنسحب من سوريا. وقد أوضح ممثل بوتين الخاص في سوريا، ألكسندر لافرنتييف، في اليوم التالي أن رئيسه قصد بتصريحه «كافة الوحدات العسكرية الأجنبية في سوريا، بما فيها الأمريكيون والأتراك وحزب الله وبالطبع الإيرانيون».

القدس العربي