المجلس الأعلى للقضاء يعلن سنة 2018- 2019 "سنة قضائية بيضاء"

جمعة, 2018-06-01 15:12
ذ. عمر محمد المختار الحاج

يجب على الوكيل، في جميع الظروف، أن يتصرف كما يتصرف الأب الصالح. و ينطبق هذا الالتزام الأدنى على أي وكيل بالإضافة إلى الالتزامات المحددة المتعلقة بنوع الولاية التي يكون مسئولا عنها.

و في أعقاب انعقاد اجتماع المجلس الأعلى للقضاء و نتائجه من حقنا أن نطرح السؤال الأتي :

هل تعرض رئيس الجمهورية، رئيس المجلس الأعلى للقضاء، إلى التضليل من وزرائه و مستشاريه؟ أو مقربيه و حاشيته؟ أو من طرف القوى الخفية داخل كل الأنظمة المتعاقبة التي تعيش في الظل و لا يتم كشفها للرأي العام، إلا في المناسبات النادرة التي يعلن فيها عن فضيحة سرعان ما يتم التستر عليها و تجاوزها بسرعة فائقة؟

إن طرح السؤال، في ظل انعقاد اجتماع المجلس الأعلى للقضاء في اليوم الأول من رمضان و على شكل مستعجل و نظرا للنتائج التي تم إقرارها، أصبح وجيها لما سببته هذه الحادثة من صدمة و حيرة لدى المتتبعين حول ضروريته و أسبابه و دوافعه و شموليته.

لقد تم انعقاد الاجتماع في اليوم الأول من شهر رمضان، حيث تتباطأ الأنشطة، لاسيما في القطاع العام، و مع انتهاء شهر رمضان المبارك تبدأ العطلة المدرسية الكبرى و ترافقها العطلة القضائية، التي ستبدأ مستمرة، مع مداومة مشلولة من 15 يوليو إلى 15 أكتوبر 2018. و بعد ذالك يصبح القضاة على مشارف الدورة الجديدة لاجتماع المجلس الأعلى للقضاء، الذي ينعقد عادة في الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر لكل سنة. و تبدأ وقتها حلقة جديدة من التحويلات الواسعة و الفوضوية التي لا مبرر لها موضوعيا، ثم تسليم المهام بين القضاة الخارجين و القضاة الداخلين، ثم توزيع المستشارين و تحديد مواعيد الجلسات. و الحصيلة النهائية و الدائمة لكل دورة هي غياب المردودية و الجدوائية و إنهاك القضاء و اختفاء العدل.

و بعد كل هذا الحراك تبدأ فترة من التدريب العملي لقضاة النيابة العامة الذين لم يخدموا يوما كقضاة مدنيين أو تجاريين، و يبدأ القضاة الذين لم يسبق لهم أن عملوا في النيابة العامة بالتعرف على الوجه الجديد لوظائفهم. و يبقى كذلك التدريب العملي ضروري للقضاة الذين أمضوا حياتهم المهنية كلها في المحاكم الزجرية والذين تم تعيينهم على رأس محاكم مدنية أو تجارية أو اجتماعية أو إدارية.
كل هذه المعطيات تبرهن بجلاء على أن السنة 2018 - 2019 ستكون "سنة قضائية بيضاء"، على خلاف السنوات الماضية التي لا يتجاوز فيها الوقت الضائع أكثر من 4 إلى 5 أشهر سنويا.

لكن شلل السلطة القضائية سوف يمتد على مدى السنوات القادمة ، التي ستعاني بلا شك هي الأخرى من آلام اجتماعات المجلس الأعلى للقضاء، وهذا لسبب فترة التأقلم الطويلة و الضرورية للقادمين الجدد للإطلاع على الملفات المعروضة أمام محاكمهم، مقارنة بالعمر الذي يقضيه أي قاض في أية محكمة من محاكم البلد. و سيتم إعادة برمجة العديد من الملفات إلى طور المداولات لأسباب إجرائية.

بالإضافة إلى عدم ملائمة مثل هذا القرار (قرار عقد اجتماع المجلس الأعلى للقضاء في 16 مايو 2018 الماضي) ، نظرا للظرف الزمني الحرج، فإن السؤال المتعلق بالقرارات التي أتخذها المجلس، في حدود 150 تحويلات و تعيينات و إعفاءات شملت أهم المحاكم في البلاد، و التي لا بد أن تكون هي السبب الرئيسي لانعقاده، مطروحا بإلحاح.

إن عمل القضاة عمل شاق على جميع الأصعدة حيث :

1. يجب عليهم قراءة مجموعة من الوثائق التي يزداد حجمها كل يوم، وبشكل مضاعف، مع توصل البلاد إلى أدوات التقنيات الجديدة، والتي استطاعت بسرعة فائقة "إغراق الجودة في الكم"  الأمر الذي جعل البحث عن الحقيقة أكثر صعوبة من العثور على" إبرة في كومة من القش ".
2.  يحكمون في نزاعات يكون فيها رجال أعمال و سياسيون و مجتمعات تقليدية و مؤسسات عمومية و شبه عمومية و منظمات وأعضاء السلطة التنفيذية أطرافا، يمارسون كل أنواع الضغوط التي يمكن للمرء تخيلها (الرشوة النشطة و الرشوة السلبية)، إضافة إلى العقوبات التأديبية المحجبة (على سبيل المثال: تحويل رئيس محكمة الاستئناف في نواكشوط في منتصف العام الدراسي، رئيسا لمحكمة مقاطعة في أحدى المناطق النائية في البلاد).
3. يتميزون بقلة العدد و قلة المحاكم مقارنة بعدد الخصوم و النوازل التي يتم عرضها أمامهم و هم ملزمون بقراءة ودراسة وتحليل و التداول و الحكم في أي طلب، حتى وإن كان من المعلوم لديهم و لدى الجميع أن ما يقرب من 80 ٪ من الإجراءات المتخذة أمام محاكم البلد تتعلق بدعاوى كيدية، و ذلك لأن القانون لا يسمح بفرض رقابة أو غربلة الدعوى القضائية عند تقديمها و لا يفرض عقوبات من النوع و الحجم الذين قد يشكلان رادعا و إنما يكتفي بعبارات عامة تسمح للقاضي أن يحكم بغرامات و بالمصاريف القضائية التي لم يحدد قيمتها و لا  الجهة المكلفة بجبايتها. و يساعد في استفحال هذه الظاهرة عدول القضاة إجمالا عن الحكم على خاسر الدعوى بالتعويض لصالح المدعى عليه مهما كان موضوع الدعوى و نوعية الضرر الذي ألحقت بالطرف الآخر، و ذلك رغم وجود مواد صريحة تفرض على القاضي الحكم بالتعويض و تترك له كيفية تقديره.
4. يفتقرون بصفة عامة إلى التخصص في مختلف فروع القانون و تطبيقاتها، التي لا يمكن أن تتم معرفتها وإتقانها الجيد، و الإحاطة بجوانبها النظرية و التطبيقية  في ظل عمومية و شمولية المناهج التعليمية التي يحظى بها الموريتانيون سواء في المؤسسات التقليدية أو النظامية.
5.  يعانون من عدم معرفة اللغتين الفرنسية والإنجليزية المستعملتين في ما يقارب 90٪ من المعاملات و المستندات عمومية كانت أو خصوصية. 

إنه مع كل هذه العوائق و الإكراهات التي لا يمكن إنكارها، يصبح من غير المناسب الانجرار كل سنة في اجتماعات هزلية يشارك الممثلون (الذين يتم اختيارهم في الغالب على أساس معيار المرونة) عن طيب خاطر في مسرحية تكرس وتؤسس إهانة و استباحة  وظيفتهم التي تعد من أشرف و أنبل و أخطر الوظائف التي يمكن للإنسان تقمصها.

لقد فكرت، بسذاجة، أن هذه الجوقة التي تقدم لنا كل عام من طرف المجلس الأعلى للقضاء قد تجد تفسيرا في التجاذبات و الانقسامات السياسية (بمعناها البريء إن صحت العبارة) في الجسم الواحد (الحاكم) لأجل السيطرة على منابع السلطة و القرار، لكنني أدركت بعد أن تحدثت عن ذلك في مناسبات متعددة مع قضاة تم نقلهم بدون إشعارهم بذلك كما جرت العادة، و كانوا وقتها أكثر ميولا إلى الإفراج عن بعض الأسرار و المواقف المفزعة التي عاشوها أثناء مسيرتهم المهنية، أن السبب الأول في هذه المسرحية الرديئة يبقى اقتصاديا و ماليا بالدرجة الأولى.

لقد أصبح "العدل" واحداً من الأنشطة التي تدر أموالا كبيرة على أولئك الذين يعزفون على حقوق الناس و على أولائك الذين بأيديهم الأوتار.

للإثراء اليوم، وبطريقة سريعة، لم يعد من الضروري الانخراط في الاتجار بالمخدرات، أو الأسلحة، أو التزوير، فهناك وسائل أخرى أكثر "نبلا" و أقل مخاطرة و هي :

 أن تكون واجهة لأولئك الذين أوكلت إليهم مهمة إدارة العباد و البلاد (إدارة جيدة وسليمة) و الذين تطاردهم أشباح الخوف على أنفسهم من التواجد يوما في الشارع مع الملايين من الفقراء و المساكين الذين ينظرون إليهم بصمة قاتل يسألهم عن ماذا فعلوا بأموالهم و حياتهم و أعراضهم؟ و مع أولئك الذين يرغبون في مسائلتهم من طرف نظام قضائي أشرفوا هم شخصيا على تحريفه لإرضاء رغبتهم في الحصول على سلطة مطلقة و مطيعة.
 العمل كقاض في بعض الهيئات القضائية التي تدر أرباحاً كبيرة لأولئك الذين أعماهم الخوف من الحرمان المادي و جهلهم بما مضى و بما هو آت لا محالة، و نسوا أنهم سيحاسبون عاجلاً أم آجلاً.

إن وظيفة قضاة المحاكم التجارية و المدنية و المحاكم الزجرية التي وجدت لنفسها مهمة تجارية في بلد تقل فيه الأمور التي يحظر فعليا المتاجرة بها، أصبحت منبعا للتمول يتم استغلاله من قبل أشخاص معينين و عصابات داخل و خارج السلطة.

عندما يتم تحويل قاض من تلك المحاكم ذات الاختصاص التجاري (قانونا أو واقعا)، فغالباً ما يكون ذلك بسبب رجل أعمال أو شخص نافذ لديه ملف عالق أمام هذا المحكمة أو تلك، تتجاوز قيمة الشيء المتنازع عليه مئات الملايين من الأوقيات القديمة، يواجه فيه شخص النافذ (أو لديه قدرة على الدفع) شخص آخر غالبا ما يكون شريك صيني أو أوروبي أو تركي أو أجنبي بصفة عامة أو حتى مواطن يفتقر إلى الحداثة، و يحاول الأول طرده و الاستحواذ على أمواله بحكم القانون و قوته. و عند ما يواجه هذا الخصم اللدود قيود الإثبات، و الإجراءات و التمعن و البحث عن الحقيقة المجردة، يبدأ إذا بتزييت الدائرة بأكملها من المنبع إلى أعلى مكانة في القمة يمكن الوصول إليه، لأجل إزاحة هذا القاضي أو ذاك عن طريقه واستبدالهم بقضاة أكثر مرونة و تفهما و يظنون بيقين أنه حرام عليهم أن "يلقوا بأيديهم إلى التهلكة".

إنه من السهل، على أولئك الذين استولوا، أو الذين يرغبون في الاستيلاء على أموال الناس بالباطل (سواء كانوا مواطنين خارج الحلقة أو أجانب بلا حماية)، توزيع جزء بسيط (10 إلى 30 ٪) من تلك الأموال للحصول على الجزء المتبقي. وعلاوة على ذلك، فإن ما سيدفعونه لن يكون، في جميع الأحوال، مرتفعاً، لأنه، كما يقول المثل "مهما كان الثمن الذي يبيع به اللص الشيء المسروق فإنه يعتبر نفسه، رابحا".
و مع انخفاض قيمة العدل في بلادنا، تصبح أجهزته و دوره المظلمة مصدرًا للقلق يخافه المواطن و الأجنبي العاديين خوفهم من النار، و تضحى مكباحًا  ضد التنمية ، و عدوًا هادما للسلم الاجتماعي.

إن الأجانب لا يستثمرون ألا القليل في بلدنا، لأنهم على يقين، من خلال التجارب المتواترة ، بأن كل من يستثمر أوقية في بلدنا، لا يخاطر فقط بخسارة فادحة لما أستثمر، بل سيعاني أيضاً، من ويلات عدالة فقدت كل مرجعية.
بعد أن قمنا بتنفير الآخرين (الأجانب) و بقينا وحدنا، في عالم تتداخل فيه المصالح وتختفي الحدود أمام وحدة و تجمع وسائل الإنتاج والسلع والخدمات العابرة للحدود، بدأنا نلتهم بعضنا البعض في صلصة قضائية كاملة منسوخة بذكاء أو بغباء "من على" الشبكة المعلوماتية في جلها.
إن الجرائم المالية أصبحت شائعة بحيث أصبحت المدونة الجنائية عاجزة لسبب قدمها و فقرها لأنه بينما تبقى القوانين جامدة يطور المجرمون يوميا أساليبهم و قدرتهم على شلل تلك القوانين و السيطرة على الأجهزة المكلفة بتطبيقها.  إن أنواعا جديدة من الغش و خيانة الأمانة و السطو بسلاح "حكم محرر للظرف" و أعمال أخرى يمكن أن توفر لمن لا يخاف و لا يبالي مئات الملايين، بل عشرات المليارات، أو أن تضمن له الإفلات من المسائلة و العقاب، إذا ما قام بالتحايل على فرد أو أفراد أو شعب بكامله، تحت المراقبة الساهرة و الودية، و في بعض الأحيان، تواطؤ حراس العدالة.

عندما يفكر المرء في ذلك، لا بد و أن تتثلج عظامه، و يشعر بالقشعريرة، لشعوره بأنه يعيش في مكان ما، يمكن، أن يجرد فيه و في أي وقت من ممتلكاته و عائلته و حياته و شرفه بتواطؤ من الذين أوكلت إليهم حماية هذه القيم.

إن النصوص التي تنظم كل هذه الأمور، و بأفضل طريقة، موجودة و بغزارة و قد تم نسخها من عند إخواننا التونسيين، أو المغاربة، أو السنغاليين، أو الدولة المستعمرة. نعم، لقد قمنا بنسخ تلك النصوص (و أنا أخاف أن تكون هي من نسختنا بالمعنى الحساني للكلمة)، إلا أنه كان من الأجدر بنا أن ننسخ طريقة الإيمان بها و احترامها و تطبيقها تطبيقا سليما.

كل ذلك يبدو وكأنه زخرفة للواجهة، ولكن مع القليل من حسن النية، والشخصية، والمسؤولية الأخلاقية والدينية (القضاة مثل غيرهم أقسموا باسم الله العلي العظيم)، فإنه يمكن عكس الاتجاه و العمل على إحلال العدل تدريجياً.  و يجب أن يبدأ العمل و التضحيات ممن وضعهم القانون و التمسك به فوق السلطة (المخافة).
" إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ" صدق الله العظيم و بلغ رسوله الكريم صلى الله عليه و سلم .

ذ/ عمر محمد المختار الحاج