في الذكرى السنوية السابعة لرحيل الحكيم

ثلاثاء, 2015-01-27 21:59
هيلدا حبش

سبع سنوات مضت على رحيلك أيها الحكيم يا رفيق الدرب النضالي الطويل. سبع سنوات عجاف مرت علينا وعلى شعـــبنا وأنت ما زلت تسكن وتشغل القلوب والعقول. 
نفتقدك اليوم أكثر من أي وقت مضى في هذا الليل الحالك وهذا الزمن الرديء. زمن يتجمد فيه الدم في عروق أطفالنا، الذين يموتون قهراً وبرداً وجوعاً، تعصف الرياح العاتية بخيامهم وتجرف معها ما تبقى من نبض للحياة الحرة الكريمة. زمن تٌدمر فيه الأوطان. كل ذلك يجري امام مرأى ومسمع العالم المتحضر الهش. عالم تجمدت فيه العواطف الإنسانية ومات الضمير واندثرت القيم والمبادئ التي تربينا عليها. عالم تسوده الصراعات الإقليمية والدولية والمصالح الذاتية الضيقة ويتهافت على نهب ثروات وطننا العربي ويبني امجاده على حساب تدمير حضارة الشعوب، ولو تطلب ذلك إبادة جماعية لشعوب بأكملها، بتاريخها وحضارتها ومستقبلها ومستقبل أجيالها.
عقود من الزمن عشتها إلى جانبك أيها الحكيم، عاصفة بالأحداث التاريخية بكل ما حملته من منعطفات خطرة كانت تتطلب منا أعلى درجات التضحية والتفاني وإنكار الذات.
منذ أن ارتبطت بالدكتور جورج حبش في 30 يوليو 1961 والتحقت في صفوف حركة القوميين العرب، وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام أحداث كبيرة كانت تعصف بالوطن العربي والأمة العربية. وكان حدث الانفصال بين سوريا ومصر أكبر صدمة في بداية حياتنا الزوجية، حيث تبددت آمالنا وأحلامنا بالوحدة العربية بين سوريا ومصر، وكانت أول تجربة نضالية لي، إذ شاركت في المظاهرات العارمة المؤيدة للوحدة التي عمت شوارع دمشق، وكانت منظمة المرأة في الحركة على رأس المشاركين في تلك المظاهرات التي تعرضت للقمع من قبل الشرطة السورية، وبدأت الملاحقات الأمنية والاعتقالات والمضايقات، وأغلقت مكاتب حركة القوميين العرب في دمشق. واعتقل الحكيم في ظروف صعبة، كنت حاملا في الأشهر الأولى، وعندما وضعت ابنتي ميساء حملتها وهي في عمر أسبوعين فقط لتزور أبيها في سجن المزة في حرارة يوليو المحرقة.
إسمحوا لي أن أستعيد شريط الذكريات لأستذكر عشرات السنين التي قضيتها الى جانب رفيق الدرب في مسيرته النضالية الشاقة والمعقدة. استذكر المراحل العظيمة في حياتنا المشتركة بكل قوة وعنفوان في مواجهة كافة التحديات والتجارب الصعبة بمعنويات عالية لم تهزها العواصف ولا الأعاصير السياسية. مسيرة تاريخية بكل ما حملته من انتصارات واخفاقات ودروس وعبر، لكنها كانت مفعمة بالأمل والإيمان والتحدي والتصميم على مواصلة الكفاح لاستعادة الأرض المغتصبة من براثن العدوالصهيوني.
في الذكرى الأليمة سأتحدث عن الجانب الإنساني في حياة الحكيم وعلاقته الوثيقة بعائلته الصغيرة التي انصهرت في آتون الأحداث والمعارك الملتهبة. ورغم مشاغله وهمومه إلا أنه كان ينتزع الوقت ولو لبضع ساعات للجلوس معنا والتحدث إلينا والاستماع الى مشاكلنا، وكنا نبادله المشاعر الجياشة والمتأججة نفسها. ونعبر له عن مدى حبنا واشتياقنا له.. كان يمثل لنا حالة من النقاء الإنساني والثوري النادر. 
في تلك المرحلة من عمرنا كنت أدرك تماماً أني ارتبطت بالطبيب الإنسان الثاثر على الظلم.. الطبيب الذي ربط مصيره بمصير شعبه وانحاز للفقراء والكادحين والمقهورين، الذين ذاقوا مرارة النكبة وعاشوا تداعياتها من تهجير وتشريد وظلم وقهر وحرمان. كان رجلاً استثنائياً عاش ومات من أجل شعبه وقضيته العادلة ووهب حياته وعصارة فكره وعلمه وتجاربه لمحاربة الظلم والاضطهاد. هكذا بدأت رحلتي النضالية والأمنية مع الحكيم وعقدت العزم على أن أكون على قدر هذه المسؤولية، رفيقة درب بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، ليقع على عاتقي الكثير من المهمات الصعبة والتحديات. لاكون على مستوى الرجل وعلى مستوى تضحيات جماهيرنا ومصدر ثقة الحكيم، وكنت مؤتمنه على حياته وأسراره، أشاركة قسوة الحياة وشظف العيش. وكانت هذه قيمة معنوية كبيرة تغنيني عن كل ما افتقدناه من ترف الحياة، قيمة تعوضني عن العمر الذي التهمته نيران التجارب والاحداث المريرة التي عشناها معاً بكل صعابها وتعقيداتها. 
منذ أن تعرفت على هذا الإنسان الكبير تعرفت على السجون ومخافر الشرطة والمخابئ تحت الارض وحياة المنافي والتنقل بجوازات سفر متعددة وبجنسيات مختلفة وأسماء مستعارة، ومحاولات الاغتيال والاختطاف وأحكام الإعدام، والملاحقات الأمنية من قبل الموساد والاستخبارات الأمريكية والعديد من القوى المعادية. منذ تلك اللحظة اعلنت حالة الطوارئ والاستنفار وتسلحت بأقصى حدود اليقظة والحذر وتدربت على السلاح. كنت أشعر بمسؤولية كبيرة تجاه أمنه وسلامته، ولم تكن حياتي مع مثل هذا القائد مفروشة بالورود ولم تكن نزهات على شواطئ بيروت، ولم نعش في برج عاجي كما يتخيل البعض، بل شركاء حقيقيين وجزءاً لا يتجزأ من مسيرته التاريخية الشاقة. مشينا معاً درب الآلام وكنا في قلب الأحداث الساخنة نشكل له الجدار الاستنادي لدرء الخطر عنه.
تلك الظروف القاسية انعكست على حياتنا الخاصة وحياة ابنتينا ميساء ولمى، لقد طالهما قسط وفير من التحمل والصبر والتضحية . كانت معاناتنا كبيرة وكان علينا بعد كل عملية فدائية للجبهة أن ننتقل الى أماكن اكثر أمناً وننقل طفلتينا ليلاً وهما نائمتان حفاظاً على سلامتيهما.
من يعيش مع الحكيم لا مكان له لأي طموحات شخصية وعليه أن يسقط الأنا من قاموسه ويدرك تماما أن المسؤولية ليست مكاسب ولا امتيازات ذاتية ومناصب حزبية خالية من أي مضمون ثوري، بل هي تفان وعطاء وانكار للذات الى أبعد الحدود. لقد أصبح عمر ابنتنا لمى سبع سنوات، كان الأب بالنسبة لها عبارة عن صورة معلقة على الجدار. كنت أحملهما وهما صغيرتان لتزورا والدهما في القواعد العسكرية أو في مكاتب الجبهة الشعبية داخل المخيمات، ونشعر بمرارة لعدم تمكنه من العيش معنا وهو على بعد خطوات منا. كان الغائب الحاضر في قلوبنا دائماً، مشدوداً لرؤيتنا ويحاول جاهداً أن يوفق بين طبيعة عمله وبين دوره كأب وزوج مثالي.
كنا نلتقي على وقع الأوضاع الأمنية وعلى دوي الانفجارات والصواريخ، خاصة أثناء الحرب الأهلية اللبنانية والاجتياح الإسرائيلي وحصار بيروت. في خضم المعارك تلك وبعيداً عن وسائل الإعلام، كنت أقوم بواجبي تجاه شعبي وتفرغت للأعمال التطوعية الإنسانية.. أزور الجرحى والمهجرين واهتم بشؤونهم اليومية للتخفيف من آلامهم، خاصة مهجري مخيم تل الزعتر. كنت على رأس لجنة طبية اجتماعية تابعة للجبهة الشعبية وأشرفت على مشروع إحياء التراث الفلسطيني أتنقل من مخيم الى آخر باسم الرفيقة منى، بدون أن يعرفوا أنني زوجة الحكيم، وكانت نساؤنا ينسجن اجمل القطع الفنية والأثواب المطرزة بألوان زاهية جميلة.. ذكريات ستبقى محفورة في الوجدان.
كنا نتبادل الرسائل القصيرة الخاطفة يومياً لتحديد مكان وموعد اللقاء للحفاظ على سرية التحرك واحياناً نلتقي لنتناول معاً فنجان القهوة في الصباح، قبل أن يبدأ عمله وننتظر تلك اللقاءات بشغف بالغ. كان الحكيم الزعيم الوحيد الذي يتنقل بدون مواكب حراسة وسيارات فارهة. وفي غالب الأحيان كنت السائق الوحيد معه واحياناً يتبعنا الرفاق في سيارة اخرى، لإيماننا بأن السرية في الحركة والتنقل وتغيير اماكن السكن باستمرار والتخفي والابتعاد عن الروتين اليومي هو الذي يشكل أفضل حماية لنا. والدليل على ذلك أن إسرائيل لم تستطع النيل منه على الأرض، مما اضطرها إلى إجراء محاولتين لاختطاف طائرات وتحويل مسارهما إلى مطارات عسكرية إسرائيلية في محاولة للقبض عليه. الحادثة الأولى كانت عام 1973، طائرة «الميدل إيست» اللبنانية المغادرة من مطار بيروت إلى بغداد، والثانية عام 1986 طائرة ليبية خاصة أقلعت من مطار طرابلس الغرب باتجاه دمشق، لكن المحاولتين فشلتا، حيث لم يكن موجودا على متن أي من الطائرتي،ن رغم وجود معلومات مؤكدة لدى إسرائيل بهذا الخصوص، ونجى بأعجوبة، وكان في المرتين بالفعل متوجها إلى المطار، لكنه تراجع في اللحظات الأخيرة لأسباب أمنية. 
علاقته بالرفاق في الجبهة الشعبية قامت على الاحترام المتبادل والتواضع والتسامح والاهتمام بشؤونهم الحياتية والعائلية الخاصة. كان الأب الروحي لكل منهم يحترم حرية الرأي والتعبير، يجسد القيادة الجماعية فكراً وممارسة، ارسى قواعد الديمقراطية في صفوف الجبهة الشعبية، اعتمد أسلوب التوعية والتثقيف الحزبي واعطائهم الفرص للقيام بدورات فكرية تثقيفية مكثفة.. أنشأ مدرسة الكادر لهذا الغرض وكنت إحدى الملتحقات بها أذكر كيف تلقيت بعض الدورات النظرية في ذلك الوقت.
عاش بين المقاتلين في المواقع الأمامية وقت المحن والشدائد والمواجهات للدفاع عن الثورة، تقاسم لقمة العيش معهم وشد من أزرهم، ما أعطاهم دعماً معنوياً، ووقوداً شحنا عزيمتهم للتصدي لكافة الأخطار المحدقة بهم. كان قدوة ومثلاً اعلى لجميع الرفاق الذين أحاطوه بمحبتهم وصمام الأمان لعائلته ورفاقه وشعبه، مترفعاً دائما عن الصغائر، يعتمد أسلوب الحوار الديمقراطي في حل التعارضات والخلافات السياسية بين التنظيمات والفصائل الفلسطينية. 
حظي باحترام الجميع لما كان يتمتع به من خلق رفيع وقيم سامية لا يحيد عنها حتى أصبح يطلق عليه لقب «ضمير الثورة» عن جدارة وبامتياز. عمل جاهداً على تحقيق الوحدة الوطنية بين كافة القوى الفلسطينية، لم يكن يعرف التعصب الديني أو الطائفي أو الحزبي ولا الأحقاد بل كان متسامحاً حتى مع خصومه السياسيين. لكن الثوابت الوطنية بالنسبة له خطاً أحمر لا يمكن التفريط بها. بقي قابضاً على جمر مبادئه طيلة حياته النضالية وهذا ما منحه ثقة الشعب الفلسطيني والعربي وثقة جميع القوى الحرة والصديقة المؤيدة للثورة.
على صعيد المرأة كان يؤمن بقدراتها وطاقاتها وبدورها الأساسي في النضال ومن الداعين الى المساواة بينها وبين الرجل وتحريرها من قيود المجتمع ومن الظلم والاضطهاد الذي كان يقع عليها. كان يحرص على الاحتفال سنوياً بعيد المرأة العالمي في 8 مارس من كل عام ويلقي كلمة مؤثرة في تلك المناسبة في مخيم شاتيلا، ويحرص على أن أكون برفقته الى جانب عدد كبير من الضيوف والأصدقاء والرفيقات في الجبهة الشعبية. 
بقي الحكيم حتى آخر رمق من حياته صادقاً وفياً لشعبه، منسجماً مع نفسه ومبادئه، يجسد كل كلمة كان يقولها وسيبقى الضمير الحي في تاريخ الثورة الفلسطينية، وستبقى ذكراه حيّة متوهجة في قلوب جميع محبيه وفي وجدان شعبه وأمته العربية.
المجد والخلود لروحه الطاهرة وتحية إجلال وإكبار إلى جميع الشهداء الأبرار الذين رووا أرض الوطن بدمائهم الزكية.