أعتبر الفيلسوف الكبير كونفشيوس (كونزة) في جوابه لأحد تلامذته حينما سأله "كيف يجب أن تُحكم الدولة، فقال: أن يتوفر طعام كاف وتجهيزات عسكرية كافية وثقة الشعب في حاكمه." عاد التلميذ وسأل: " إذا لزم الاستغناء عن أحدها فبأيها نبدأ؟" قال كونفوشيوس: "التجهيزات العسكرية." فقال التلميذ وإذا لزم الاستغناء عن مقوم آخر فبأيهما نبدأ، قال الحكيم الصيني: "جزء من الطعام، فمن قديم الزمان الموت هو قدر كل الناس، ولكن إن لم يكن لدى الشعب إيمان بحكامه، فلا مبرر لوجود الدولة."
نعم إنه إيمان الشعب بحاكمه وثقته في المسؤولين عن تدبير شؤونه، ثقة تدفع على الاستقرار وتساعد الدولة في النمو والتطور.
لم تكن موريتانيا بحاجة للاستقرار بقدر ما هي محتاجة إليه اليوم، حيث تعيش منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادها الرائد صالح ولد حننة فترة استثنائية لم تقم بها سلطة مستقرة استقرارا يعود على البلد بنتائج هو في أمس الحاجة إليها، فبعد فترة انتقالية لسنتين انشغل فيها الجميع بترتيب المرحلة القادمة ووضع النصوص والقوانين وتنظيم الانتخابات وخرج عصب الدولة منها منهكا لكن المناخ السياسي والروح الإيجابية التي سادت تلك المرحلة أراحت الجميع واستبشر بها خيرا، خصوصا بعد تنظيم انتخابات شفافة ونزيهة باركتها كل الأطياف السياسية ورضيت بمفرزاتها، بيد أن الأوضاع ما لبثت أن انتكست من جديد وعاد الجميع إلى نقطة الصفر بعد تحالف قيادات الجيش ونخب سياسية من الأغلبية الحاكمة والمعارضة العتيقة، ودخلنا في متاهات قانونية و دستورية ما زلنا في تداعياتها رغم الاتفاق على المسار الديمقراطي والمرحلة الإنتقالية الثانية.
لكن النخب المعنية باستقرار الدولة ظلت حبيسة أطماعها السياسية ما إن تأتي النتائج بعكس إرادتها حتى تنقلب على كل التفاهمات، وهكذا ظلت الخلافات السياسية تعصف بمستقبل البلد و بطموح المواطن البسيط في توفير ظروف من الاستقرار يمكن معها الإنجاز والتعمير وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين، فالسلطات الحاكمة منشغلة بصراعات جانبية مع المعارضة، وتحولت المعارضة عن دورها الأساسي في مراقبة أداء الحكومات مراقبة نزيهة، تماماً كانشغالها عن بناء قواعد جماهيرية واسعة تمكنها من تغير حقيقي انطلاقا من صناديق الاقتراع!
ليست هنا بوارد تقييم أداء الحكومة بحكم مسؤوليتها الأولى عن إدارة دفة الصراع لأن الأزمة تخطت أداء الحكومة إلى دور كل النخب المعارضة والموالية، فلكل منهما دور بارز أعاق عملية الانتقال وحولها عن مسارها الصحيح، ليصبح الصراع على السلطة بدل التفكير جديا في التنمية والاستقرار، ودخلنا في ما يمكن أن يطلق عليه حالة طوارئ وطنية شاملة، تبدو فيها حياة المجتمع مهددة اجتماعيا و اقتصاديا و امنيا و سياسيا و اداريا، إذ لا يمكن لدولة مهما كانت قوتها الاقتصادية وتماسكها المجتمعي أن تتحمل عقدا كاملا من الصراع السياسي، أدى إلى فقدان الناس للثقة في الدولة بكل مؤسساتها ورموزها -وقد سبقت الإشارة- إلى أن أكبر تهديد يقوض أركان الدولة هو انعدام الثقة في الحاكم وتراخي يد الدولة، وبعدها عن التفاصيل الدقيقة لحياة الناس، المعيشية والخدمية وحتى علاقاتهم فيما بينهم، لذلك ليس من الغريب أن نشاهد في الفترات الأخيرة بداية انفراط العقد المجتمعي وبروز خلافات عرقية وجهوية هي النتيجة الحتمية لانشغال النخبة عن التفكير في أحوال المجتمع ومشاكله والدولة وكيانها وانحسار الهم العام في نقطة واحدة هي من يحكم وكيف يحكم.
الفرصة الأخيرة:
أمامنا فرصة مواتية بعد تنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية -بغض النطر عن نتائجها وطرق تنظيمها- فللواقع إكراهاته ولابد في لحظة ما أن ينتبه الجميع إلى الخطر الأكبر وهو فشل الدولة و تآكل النسيج المجتمعي، ورغم كل الأخطاء وكل الارتكاسات لدينا حكومة قائمة وبرلمان يشتغل بكل حرية مع ما يصاحبه من محدودية في الدور وقصور في الأداء.
يمكن البناء إذا على هذا المعطى وتحويل الأنظار إلى المشاكل البنيوية للدولة، واقتطاع وقت يسير يركن فيه الجميع لراحة معوضة، تسمح للنظام بالإنجاز والانشغال بدوره الرئيسي كما يسمح للمعارضة بترتيب صفوفها وإعادة بناء أطرها، والتواصل مع قواعدها الشعبية، وتكريس ثقافة التعايش بين جميع الأطراف السياسية والإدلوجية، وتأخذ النقابات بدورها في رعاية مصالح منتسبيها رعاية مهنية بعيدة عن الإكراهات السياسية.
خمس سنوات قادمة كفيلة بترميم البناء وإعادة الأمور إلى مسارها الصحيح، ومراجعة العقد الإجتماعي بين كافة شرائح المجتمع تأخذ الدولة فيه زمام الأمور وتعالج المشاكل العرقية التي أصبحت الخطر الداهم الذي يهدد مجتمعنا بعد تكاثر النعرات الطائفية والإثنية نتيجة إهمال الدولة للمشاكل الحقيقية لشرائح ظلت ترزح تحت غبن اجتماعي وظلم تاريخي عجزت كل الأنظمة المتعاقبة في القضاء عليه، ولم تعد المهدئات والحلول الجزئية تجدي معه بعد جنوح البعض لتدويله والإقتيات على عذابات أناس راحوا ضحية ظلم تاريخي وإهمال رسمي ومتاجرة رخيصة!
ليست دعوتي للاستقرار و البحث عن كلمة سواء كدعوة الحكام وأزلامهم من من خيروا الشعوب بين الفوضى والاستبداد، لكنها دعوة صادقة للاتفات الى الدولة المنهكة بفعل الصراعات والإنتاقالات والانتخابات، والحوارات ووالأحزاب والمنتديات حتى أصبح المواطن العادي يقتات على أخبار السلطة والمعارضة، ومن الغريب أن تجد الجميع يهتم بهذه الأخبار وتشغل حيزا كبيرا في تفكيره، وأكاد أجزم أن المجتمع الوحيد الذي يترقب بفارغ الصبر نتائج اجتماع الحكومة الأسبوعي لا لمعرفة القرارات التي تمس مصالحه وحياته المعيشية بل لمتابعة التعيينات والمراسيم المتعلقة بحوار السلطة والمعارضة.
إن الاستقرار الذي أصبو إليه استقرار يشمل الفكر والتصور ويشمل الاستقرار الداخلي والسياسي والاجتماعي المبني على وسائل الرضا والمشاركة والديمقراطية والعلاقة الايجابية والمفتوحة بين مؤسسات الدولة والسلطة والمجتمع بكل مؤسساته المدنية والأهلية وشرائحه الاجتماعية وفئاته الشعبية .. لذلك يكون الاستقرار ، بمثابة النتاج الطبيعي لعملية الانسجام والتناغم بين خيارات الدولة، وخيارات المجتمع؛بحيث يصبح الجميع في مركب واحد ، ويعمل وفق أجندة مشتركة لصالح أهداف وغايات واحدة ومشتركة ..
وإن توفرت فرصة من هذا النوع سيكون لها دور بارز في نقل بلدنا من حالة التردي التي يعيشها منذ نشأته، فقد أعيته الإنقلابات وأنهكته الانتخابات، وآن لساستنا -ولا أحاذر في الأقوام من أحد - أن يعرفوا أن المشكلة فيهم وفي جشعهم وتكالبهم على السلطة والنفوذ! لو كانت إدارتنا مستقلة عن كل التجاذبات السياسية والخلافات الجزئية، لوجد السياسيون فرصة للصراع على السياسات العامة وتدافعوا كيفما يشاؤون، لكن الإدارة في بلدنا إدارة ضعيفة مرتبطة بشكل عضوي بالرئيس والوزير من أقل بواب إلى أعلى منصب في الوزارة .
يجب أن يقول الجميع بصوت واحد كفى! كفى صراعا وتنظيرا وكفى حوارات جوفاء لا تلد إلا حوارا آخر وانتخابات أخرى.... فلم نعد نتحمل سنوات أخرى من التشرذم والتخبط وحالة الطوارئ.