ما برح الرئيس الأميركي باراك أوباما يؤكد عدم نية واشنطن خوض حرب ثانية في العراق أو إنزال أية قوات برية أميركية على أراضيه، مختزلا مهمة الجيش الأميركي في تقديم المشورة والتدريب والمساندة للقوات المقاتلة لتنظيم الدولة الإسلامية.
وتدحض مواقف أوباما تلك، تصريحات مثيرة للجدل كان الجنرال مارتن ديمبسي، قائد القوات الأميركية المشتركة، قد أطلقها خلال جلسة استماع أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ الأميركي منتصف شهر سبتمبر/أيلول الماضي، أوضح فيها أنه إذا فشلت قوات التحالف في هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" وأعوانه فإنه سيقدم توصياته للرئيس أوباما باستخدام القوات الأميركية البرية لإنجاز المهمة.
وبدورها، وتوخيا لبلوغ مآرب سياسية طائفية انفصالية أو استقلالية، هُرعت كافة الفصائل الكردية نحو استرضاء واشنطن والغرب بغية اقتناص فرصة للمشاركة في الحرب على "داعش "، خصوصا في شقها البرى، لاسيما بعد تأكيد وزير الخارجية الأميركي جون كيري على ضرورة دعم القوى المحلية على الأرض والمستعدة لمحاربة "داعش" توطئة لتشكيل تحالف موسع باسم "غرفة عمليات بركان الفرات"، يضم قوات وحدات حماية الشعب الكردية والعديد من الكتائب التابعة للجيش الحر وغيرهما من الفصائل المسلحة لقتال "داعش" في الريف الشمالي لحلب ومحافظة الرقة.
"قبل أن يهرول أكراد سوريا نحو البحث عن دور في الحرب على "داعش"، توخيا لدعم المجتمع الدولي لهم، كانت قوات البشمركة تقاتل داعش بشراسة منذ إقدام التنظيم على مهاجمة كردستان العراق في شهر أغسطس/آب الماضي"
وقبل أن يهرول أكراد سوريا نحو البحث عن دور في الحرب على "داعش"، توخيا لاستجداء دعم المجتمع الدولي لهم ووضع قضيتهم في صدارة المشهد السياسي السوري المستقبلي تمهيدا لمناقشتها ضمن أية تسوية سياسية للأزمة السورية لاحقا، كانت قوات البشمركة الكردية بشمال العراق تقاتل "داعش" بشراسة منذ إقدام التنظيم على مهاجمة كردستان العراق في شهر أغسطس/آب الماضي، أي حتى قبل البدء في تشكيل التحالف الدولي أو انطلاق الغارات الجوية ضد معاقل التنظيم ومن هم على شاكلته.
دور حيوي
إذا جاز القول إن هناك أربع قوى عسكرية أساسية على الأرض يمكن لواشنطن الاعتماد عليها في الإجهاز على "داعش" عبر حرب برية، تتجلى في كل من الجيش العراقي النظامي بعد إعادة تأهيله، والمعارضة السورية المعتدلة بعد تدريبها وتجهيزها، كما بعض الفصائل الكردية السورية كقوات حماية الشعب وحزب الاتحاد الديمقراطي، فضلا عن قوات البشمركة الكردية، فإن أبصار كثير من الخبراء الغربيين تشخص تلقاء الأخيرة، باعتبارها صاحبة الحظ الأوفر في الاضطلاع بالدور الأكبر في هذا المضمار.
فمن جهة، يصنف البشمركة كأكراد مسلمين سنة غير طائفيين أو متمذهبين بالشكل الذى يربك حسابات التحالف الدولي أو يغذى مخاوف دول الجوار، وذلك على خلاف الحال مثلا مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، الذى يعد الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني المدرج ضمن قائمة الإرهاب، وصاحب العلاقة المتوترة مع الائتلاف الوطني والجيش الحر السوريين المعارضين، والذى استغل أجواء الاضطراب الأمني والسياسي على خلفية الثورة السورية وأعلن نظاما أقرب للإدارة الذاتية قبل عام مضى بشمال البلاد، بتواطؤ من حليفه بشار الأسد، الذي يسعى لتوظيف تطلعاته الإثنية من أجل إفساد الثورة الشعبية وتفزيع دول الجوار السوري والقوى الدولية من التداعيات الطائفية والإثنية الخطيرة للإطاحة به.
بينما يسعى الحزب ذاته اليوم لانتزاع موطئ قدم داخل التحالف الدولي والإقليمي لمحاربة "داعش" توطئة للحصول على مكافأة أميركية بعد أن تضع تلك الحرب أوزارها وتحقق مآربها، ربما تمهد له السبيل لإعلان حكم ذاتي بكردستان سوريا أسوة بما جرى مع أكراد شمال العراق على خلفية التدخل العسكري الأميركي والدولي في العراق عامي 1991 و2003.
ومن جهة أخرى، تتعاظم فرص البشمركة كفصيل يمكن للتحالف الدولي الاعتماد عليه مع استمرار تأزم أوضاع الجيوش التي يمكن الرهان عليها في الحرب البرية ضد "داعش" وأقرانه كالجيش النظامي العراقي والجيش السوري الحر.
ففيما يعانى الأخير من العوز التسليحي المتطور كما يفتقد لأنظمة متطورة ودقيقة للقيادة والسيطرة، إلى حد يحول دون الاعتماد عليه في عملية ملأ الفراغ الجيواستراتيجى الناجم عن تصفية "داعش" وشيعته، خصوصا مع انشغال هذا الجيش بمهمته الأساسية المتمثلة في العمل على إسقاط نظام بشار الأسد، لا يزال الأول أسيرا للضعف البنيوي والفقر التسليحي حيث غياب القوات الجوية والدفاعات الجوية المتقدمة علاوة على المذهبية والطائفية المقيتة.
هذا إضافة إلى ضعف التنظيم والتدريب، وتدهور الروح المعنوية لجنوده وضباطه على نحو ما بدا جليا في انسحاب قواته أمام مقاتلي "داعش" في مدن نينوى وصلاح الدين وكركوك مما أتاح لهم اغتنام أسلحة عديدة ومتطورة، كما أسفر تراجع شعبية الجيش العراقي في المناطق السنية عن خسارته أراض هائلة وأهداف مهمة أمام "داعش" في وقت قصير، حتى بات من غير المستبعد أن تثير عملية إعادة تسليح هذا الجيش وتأهيله بوضعه هذا -ما لم تتم على أسس وطنية وغير طائفية- استفزاز أبناء الطائفة السنية العراقية.
"في خضم ذلك الاضطراب والارتباك اللذين يلقيان بظلالهما على الجيوش النظامية والقوى الثورية والفصائل القتالية المتمذهبة، تعلو أسهم قوات البشمركة الكردية العراقية، التي يبلغ تعداد مقاتليها 175 ألف عنصر"
أما المعارضة السورية المعتدلة التي وافق الكونجرس الأميركي على تدريب خمسة آلاف عنصر منها في معسكرات بمنطقة تبوك السعودية، فعديدة هي المشاكل التي تعقد من عملية تأهيلها سريعا لمحاربة "داعش" وأترابه، ومن أهمها على سبيل المثال وليس الحصر، كيفية تحديد المعتدل من غير المعتدل، وهل ستكون العناصر المدربة من مقاتلي الجيش الحر أم من بين القابعين بمخيمات الإيواء؟ وهل سيكفي تدريب ثلاثة أو خمسة آلاف عنصر على مدى بضعة أشهر لدحر "داعش" بريا في سوريا أو ملأ الفراغ الإستراتيجى الناجم عن القضاء عليها، خاصة بعدما أعلن البنتاجون أن هزيمة "داعش" وأعوانها لن تتم بالضربات الجوية وحدها وإنما تتطلب حربا برية تحتاج بدورها إلى جهود 15000 ألف مقاتل مدرب ومجهز من المعارضة السورية على الأرض؟!
وفى خضم ذلك الاضطراب والارتباك اللذين يلقيان بظلالهما على الجيوش النظامية والقوى الثورية والفصائل القتالية المتمذهبة، تعلو أسهم قوات البشمركة الكردية العراقية، التي يبلغ تعداد مقاتليها 175 ألف عنصر، وفقا لتقديرات غربية، بينهم فوج نسائي عالي التدريب على الأسلحة الثقيلة قوامه 500 متطوعة كردية ألفن الحروب منذ العام 1996 وخضن معارك ضد جماعة أنصار السنة في العام 2002 كما شاركن في حرب العراق عام 2003 بمنطقة كركوك، حيث تتسم بالتنظيم والتماسك والتجانس المشفوع بمستوى لا بأس به من التسليح بفضل الدعم الخارجي، فضلا عن الروح القتالية العالية والإصرار على الحيلولة دون تسلل "داعش" إلى إقليم كردستان العراق.
وبينما تحاول غالبية القوى العسكرية المحلية في سوريا والعراق تقديم نفسها كطرف يمكن لواشنطن الاعتماد عليه في محاربة "داعش" على الأرض، أبدت وزارة البشمركة في إقليم كردستان استعدادها التام، تسليحا وتدريبا، للعمل ضمن التحالف الدولي للقضاء على "داعش "، وطالبت الوزارة الولايات المتحدة وحلفاءها بدعم وتأهيل إقليم كردستان لوجستيا وعسكريا ليكون مركزا لانطلاق عملياتها العسكرية، لاسيما وأن الإقليم يمتلك ثلاثة مطارات لانطلاق واستقبال الإمكانات الجوية لدول التحالف، وهي مطارا السليمانية وأربيل الدوليان، إضافة إلى مطار حرير العسكري، الذي يعود تاريخ بنائه إلى عهد النظام السابق، بينما لم تستبعد وزارة البشمركة الشروع في بناء مطار عسكري أميركي في أربيل قريبا.
وتأسيسا على ما ذكر آنفا، وفى ضوء تجربة الغزو الأنجلو-أميركي للعراق في عام 2003، والدور الحيوي الذى لعبته إدارة كردستان العراق وقوات البشمركة الكردية بعد رفض البرلمان التركي السماح للقوات الأميركية بعبور الأراضي التركية إلى العراق وقتئذ، تظل الأخيرة، حسب خبراء إستراتيجيين غربيين، هي الأكثر جاهزية، من كافة النواحي، لمحاربة "داعش" على الأرض بل وملأ الفراغ الجيواستراتيجى الذى سيتمخض عن هزيمة التنظيم وأعوانه ودك حصونهم بالقرب من شمال العراق.
دعم دولي
إيمانا منها بأهمية دورها في الحرب على "داعش" وأعوانه، لم تدخر بعض الأطراف الإقليمية والقوى الغربية وسعا في إمداد قوات البشمركة الكردية بالدعم العسكري على مستوى التدريب والتسليح. فمن جانبها، تقدم طهران دعما عسكريا لقوات البشمركة، حسبما أكد رئيس الإقليم مسعود برزاني خلال مؤتمر صحفي مع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الذى كان يزور أربيل في السادس والعشرين من أغسطس/آب الماضي، فإيران كانت من أولى الدول التي زودت بالسلاح والذخيرة قوات البشمركة الكردية العراقية، التي تعتمد عليها إستراتيجية أوباما في مواجهة "داعش".
وقد برز جليا على الأرض دور إيران بهذا الخصوص، من خلال تعاون قوات الجنرال قاسم سليماني وميليشيات "الحشد الشعبي" مع قوات البشمركة لتحرير مدينة آمرلى الشيعية من حصار "داعش" تحت غطاء جوى أميركي.
أوربيا، لم تتردد دول كبريطانيا وإيطاليا في إمداد قوات البشمركة بأسلحة ومعدات عسكرية متطورة لقتال "داعش"، وقبل نهاية شهر سبتمبر/أيلول، وبالتزامن مع وصول الدفعة الثانية من المساعدات العسكرية الألمانية إلى أربيل، قامت وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون ديرلاين بزيارة أربيل مجددة التزام برلين مواصلة دعم وتسليح قوات البشمركة حتى بعد القضاء على تنظيم "داعش".
وبينما طلب بارزاني من الوزيرة الألمانية تزويد قوات البشمركة بمعدات عسكرية إضافية تتضمن أجهزة تفكيك المتفجرات التي يزرعها الإرهابيون خلال انسحابهم، والمساهمة في تدريب البشمركة، أكدت الوزيرة أن بلادها ستقوم بتجهيز أربعين ألف عنصر بكلفة تصل إلى 92 مليون دولار، فضلا عن إرسال أربعين مستشارا عسكريا لتدريب مقاتلي البشمركة.
"تتوارى خلف مشاركة قوات البشمركة في قتال "داعش" غايات ومرام لعل أبرزها -إلى جانب استرضاء الحليف الأميركي والتماشي مع المسعى الدولي والإقليمي- غايتان مركزيتان: هما: الحفاظ على وحدة واستقلال إقليم كردستان والحيلولة دون وصول داعش إليه"
وتناغما مع علاقة هي إلى التحالف الاستراتيجى الضمني أقرب بين واشنطن وكردستان العراق منذ زمن، وقع سفير كندا لدى الأردن والعراق برنوا ساكوماني مع مصطفى سيد قادر وزير البشمركة -منتصف سبتمبر/أيلول الماضي- بروتوكولا عسكريا مباشرا تلتزم كندا بموجبه تسليم مساعدات عسكرية لقوات البشمركة تتضمن روبوتات خاصة بإزالة الألغام والمتفجرات.
ثمن المشاركة
لما كانت كافة الأطراف المشاركة في التحالف الدولي والإقليمي ضد "داعش" ورفاقه تتوخى من وراء مشاركتها تلك مكاسب إستراتيجية محددة تتخطى مجرد الإجهاز على ما يشكلونه من مخاطر وتهديدات، لم تغرد إدارة كردستان العراق بعيدا عن السرب، حيث تتوارى خلف مشاركة قوات البشمركة في قتال "داعش" والذين معه، غايات ومرام لعل أبرزها -إلى جانب استرضاء الحليف الأميركي والتماشي مع المسعى الدولي والإقليمي- غايتان مركزيتان: أولاهما، الحفاظ على وحدة واستقلال إقليم كردستان والحيلولة دون وصول خطر هذا السرطان الإرهابي إلى أراضيه وثرواته النفطية.
لذا، أعلن رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني، أنه أعطى الأوامر لقوات البشمركة للانتقال بكامل عناصرها وأحدث عتادها، من وضع الدفاع إلى الهجوم ضد مقاتلي داعش في سهل نينوى، مسلحين بأسلحة ثقيلة جديدة ومتطورة تستخدم في المعارك لأول مرة.
أما ثانيتهما، فتتمثل في مواصلة إستراتيجية انتزاع كردستان العراق للمكافآت والعطايا من الحليف الأمريكي عقب مساعدته في كل تدخل عسكري بالمنطقة، حيث يتطلع الإقليم هذه المرة -لقاء مشاركته في حرب "داعش"- إلى الجائزة الكبرى التي طالما اشرأبت إليها أعناق وهامات أكراد العراق والمتمثلة في إعلان إقليم كردستان العراق دولة تامة الاستقلال في أعقاب استئصال السرطان "الداعشى" وتوابعه من جذوره.
وهو الحلم الذى ربما لم يعد بعيد المنال بعد أن رحبت به إسرائيل وأبدت تركيا عدم ممانعتها من خطوة كهذه طالما تسنى تطويعها لمصلحتهما، وبعدما استغلت إدارة الإقليم الاضطرابات التي اجتاحت العراق على خلفية التأزم السياسي في بغداد وتفجر الخطر "الداعشى" لإحكام سيطرتها على كافة المناطق الكردية الحدودية المتنازع عليها مع حكومة بغداد بما فيها كركوك الغنية بالنفط، على مرأى ومسمع من دول المنطقة، وصمت أميركي، ربما لا يخلو من التواطؤ.