«كيمياء» السيسي وبوتين

اثنين, 2015-02-16 08:50
عبد الحليم قنديل

مع زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى مصر، وتحقيقها لاختراق نوعي مثير في علاقات القاهرة وموسكو، امتلأت الصحافة العالمية ـ الأمريكية بالذات ـ بتعبيرات تقارب وتشابه بين شخصيتي الرئيس المصري والرئيس الروسي، ومن نوع وصف السيسي بأنه «قيصر مصر»، ووصف بوتين بأنه «أبو الهول الروسي».
وبدت التعليقات في غاية القلق من علاقات مصر الجديدة مع روسيا، وتأثيرها المتزايد في تحولات المنطقة والعالم.. وقبل ما يزيد عن عشرة شهور، كتبت ونشرت مقالا بعنوان «هل يكون السيسي بوتين مصر؟»، لم يكن السيسي وقتها قد أصبح رئيسا، لكنه قبلها كان قد زار موسكو بصفته وزيرا للدفاع، والتقى الرئيس بوتين، وظهرت حالة كيمياء خاصة تربط الرجلين، وعبّر بوتين عن حماس ظاهر لفكرة ترشيح السيسي للرئاسة المصرية، رغم أن الترشح لم يكن مطروحا رسميا وقت الزيارة، وعبّرت واشنطن وقتها رسميا عن الضيق الشديد من تصريحات الرئيس الروسي، فلم تكن واشنطن ترغب في ترشح السيسي للرئاسة، ولا تستريح للتقارب المصري الروسي، بعد إزاحة حكم الإخوان بثورة 30 يونيو 2013، الذي سبق زيارة السيسي الأولى إلى موسكو، وتكريس صيغة (2+2)، أي لقاءات وزيري الخارجية والدفاع الروسيين مع نظيريهما المصريين، وهي صيغة علاقات مميزة تنتهجها موسكو مع أطراف دولية ذات أهمية خاصة. ومع زيارة السيسي الثانية لموسكو بعد أن أصبح رئيسا، تطورت العلاقات إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية الشاملة، وعلى الطريقة ذاتها التي ارتقت إليها علاقة مصر مع الصين حليف روسيا، ثم جاءت زيارة بوتين الأخيرة إلى القاهرة، وما صاحبها من حفاوة مكافئة لما لقيه الرئيس السيسي في موسكو، جاءت الزيارة لتحول النوايا إلى إجراءات، وإلى اتفاقات كبرى في مجالات السياحة والصناعة والطاقة الذرية والتعاون العسكري بأوسع نطاقاته.
وطبيعي جدا أن تغضب واشنطن، خاصة أن السيسي أقام عشاء رسميا لبوتين على قمة «برج القاهرة»، وهو البرج الذي أقامه عبد الناصر كشاهد أبدي على فشل المخابرات الأمريكية في رشوته، وبدت الرسالة الرمزية بليغة، فالتقارب المصري مع روسيا يسحب من رصيد العلاقة مع واشنطن، وينهي وضع أمريكا كدولة ذات وزن أكبر في العلاقة مع مصر، ويخلخل قواعد ما يسميه البعض بالعلاقة الخاصة بين واشنطن والقاهرة، التي توصف أحيانا بالعلاقة الاستراتيجية، أو ـ بالدقة ـ علاقة التبعية التي اتصلت على مدى أربعين سنة خلت، والتي بدأت عقب حرب أكتوبر 1973، بالزيارة الشهيرة للرئيس نيكسون إلى القاهرة، التي تلقاها الرئيس السادات وقتها باعتبارها فتحا عظيما، يكرس انقلابه على اختيارات عبد الناصر، وينهي صداقة القاهرة المميزة مع الاتحاد السوفييتي، وباعتبار أن أمريكا تملك 99٪ من أوراق اللعبة على حد تعبير شهير للسادات، زاده مبارك من بعده إلى مئة بالمئة، وصار السفير الأمريكي هو الحاكم بأمره في القاهرة، وصارت واشنطن في وضع «الوصي الشرعي» على السياسة المصرية، خاصة بعد عقد ما يسمى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وما تبعها من قيود المعونة الأمريكية الضامنة، واحتكار واشنطن لتسليح الجيش المصري بحسب شروطها، وهو نسق علاقات لم يعد مستقرا، ويتعرض للتفكك التدريجي الآن، خاصة بعد اتجاه واشنطن للتلاعب بورقة الإخوان، والضغط بورقة تقليص أو حجب المعونة.
وردت القاهرة بلا مبالاة، وتصرفت بوعي ظاهر، وحولت الأزمة إلى فرصة، وقلصت تدريجيا من الاعتماد على الأمريكيين، وأفسحت لنفسها في حقل السياسة الدولية والعربية والإقليمية، وأقامت تكاملا مدروسا بين فوائض القوة العسكرية المصرية وفوائض المال الخليجي، وبدون أن تغلق نوافذ حوار قد يتطور مع إيران، ودخلت كطرف مباشر على خط الأزمة السورية، وعلى نحو يتحدى النفوذ التركي هناك، فالسياسة المصرية تخوض حربا حقيقية بوسائل الدبلوماسية الناعمة، وتكسب أرضا جديدة كل يوم، غايتها استعادة الدور المصري في المنطقة وفي العالم، وتوظيف طاقة الانفتاح الخارجي لدعم أوضاع الداخل المنهكة، وكسب حرية قرار أكبر، واسترداد الاستقلال الوطني، وتقليص العلاقات مع أمريكا عمليا، وهو ما يفسر تعاظم وزن العلاقات المصرية مع روسيا، وفي مجالات جوهرية، انحط فيها الأداء المصري على مدى أربعين سنة من الأسر في سجن أمريكا، وآن الأوان لوصل بعض ما انقطع مع سيرة النهوض المصري العظيم في الخمسينيات والستينيات، فثمة قفزة هائلة في اتفاقات التسليح، صفقات مميزة مع فرنسا على طائرات «رافال»، وصفقات أهم مع روسيا على أحدث جيل من قاذفات «الميغ»، وعلى صواريخ «إس/ إس ـ 300» و»إس/ إس ـ 400»، وعلى تكنولوجيا الأقمار الصناعية، وعلى تشغيل مصانع الحديد والصلب، وعلى البدء في إنشاء محطة الضبعة النووية، واستئناف البرنامج النووي السلمي المصري، الذي توقف منذ دخول مصر إلى حظيرة واشنطن، فقد كانت النية معقودة على البدء بمشروع الضبعة عام 1974، وتوقف المشروع بالضغط الأمريكي على مدى أربعين سنة، كانت إيران تصعد فيها على مدارج التفوق العلمي والصناعي والنووي، بينما مصر تتراجع وينزوي دورها، وتنحط مكانتها، وها هي مصر تعود الآن، ولو متأخرة عن المواعيد، وبقاعدة علمية قابلة للإحياء والتطوير، وبملامح تصوغ صورة «مجمع صناعي علمي عسكري» قادر يبني مصر الجديدة.
قد تكون ظروف روسيا مختلفة في الكثير من جوانبها عن ظروف مصر، فروسيا دولة هائلة المساحة، ولديها موارد طبيعية جبارة من البترول والغاز بالذات، وهو ما لا يتوافر في مصر التي تملك مزايا أخرى، لكن المغزى العام للتطورات في البلدين متشابه إلى حد كبير، فقد كادت روسيا تضيع نهائيا، بعد انهيارات موسكو الشيوعية أوائل التسعينيات، التي تبعها عقد كامل من التحلل في ظل رئاسة يلتسين المخمور دائما، بينما سيرة الضياع المصري أقدم، وهو ما تحاول مصر بالكاد أن تخرج من نفقه المظلم الآن، وقد نجح بوتين في مهمة إنقاذ روسيا، وفرضها كطرف منافس لأمريكا في حركة الحوادث الدولية، وبدون الصبغة الأيديولوجية القديمة التي امتاز بها الدور الروسي في العهد السوفييتي، وهو ما قد يشير إلى وجه شبه بين دور بوتين ودور السيسي، خاصة أن كلا الرجلين من طراز ابن الدولة، فقد جاء بوتين من جهاز المخابرات، وجاء السيسي من المورد نفسه، ولعبت المقادير دورها في تصعيد الرجلين، بوتين كان مسؤولا عن جهاز الأمن الفيدرالي في مكتب رئاسة يلتسين، وجرى تعيينه قائما بأعمال الرئيس أواخر 1999، ثم أصبح رئيسا منتخبا لأول مرة عام 2000، وتبادل مقعد الرئيس مع «الدوبلير» ميدفيديف، ثم عاد إلى الرئاسة مجددا، بينما السيسي كان مديرا للمخابرات الحربية في عام مبارك الأخير بالسلطة، وهو صاحب خطة كانت موضوعة لتحرك الجيش في مايو 2011، سبقتها ثورة 25 يناير 2011 الشعبية، التي انحاز لها الجيش سريعا، وببيان 2 فبراير الذي وضع بخط يد السيسي، ثم جرى ما جرى، وشاءت الأقدار أن يعينه الرئيس الإخواني مرسى وزيرا للدفاع، وإلى أن ذهب حكم الإخوان، وصار السيسي رئيسا بشعبية لافتة، وهكذا جمع «مكر التاريخ» بين صعود بوتين وصعود السيسي، وبدت المهمة إنقاذية في الحالتين، وبروح انضباط شخصي وبراغماتية سياسية ميزت الدورين، وهو ما قد يفسر جانبا من «كيمياء» خاصة تربط بوتين مع السيسي، وقد سبقت ظاهرة بوتين حضور السيسي على مسرح السياسة، وهو ما قد يجعل بوتين موضعا لإعجاب ظاهر عند السيسي، ويجعل أولوية السيسي ـ كما بوتين ـ للاقتصاد والجيش، وقد استعاد بوتين نهضة السلاح الروسي، وهو ما يفعل السيسي مثله بالضبط، بنجاحه في مد سيطرة الجيش المصري حتى الحدود التاريخية مع فلسطين المحتلة، وإلغاء مناطق نزع السلاح في سيناء، وهو ما يحدث لأول مرة في مصر منذ ما قبل هزيمة 1967، وبخطة مدروسة لتطوير تسليح الجيش المصري، ودفعه قدما إلى تخطي مكانة الجيشين الإسرائيلي والتركي، وجعل الجيش المصري أقوى جيوش المنطقة، وتطوير صناعة السلاح الذاتية، وصياغة تكامل حثيث بين الصناعات العسكرية والصناعات المدنية، وإفساح المجال لدور قيادي لما قد تصح تسميته برأسمالية الجيش، والإدارة المركزية الصارمة لمشروعات كبرى في قناة السويس واستصلاح الأراضي وصناعات السيارات والتعدين والأسمدة، وهو تطور يدفع موضوعيا إلى صدام محتمل بين «رأسمالية الجيش» و»رأسمالية المحاسيب» الموروثة عن مبارك، وهو صدام لا يبدو أن السيسي يستعجله، لكن تجربة السيسي لن تتقدم بدونه، فقد فعلها بوتين مبكرا، وأطاح بحيتان «اللوبي اليهودي»، وحطم شوكة كبار المحتكرين، وهو الدرس الذي يعرفه السيسي، وقد يكرره على طريقته.