يوم آخر يمر على العراق. نريده ان يكون يوما عاديا، مثل اي يوم عادي في بلدان أخرى، تخترع المناسبات لتواصل الفرح، فنفاجأ بغيمة سوداء تمتد من الأرض حتى السماء، مغلفة نهوض البرابرة من أحيائنا ومدننا، من بيننا. لم نعد بانتظار البرابرة، كما يقول الشاعر كفافيس، لأنهم لم يغادرونا، نحو اماكن أخرى، لأنهم بقوا بيننا، حاملو الموت اليومي، ينثرونه علينا قصفا وتفجيرا وعند نقاط التفتيش الوهمية.
سكان مدينتنا رهائن لدى البرابرة. ينتقي البرابرة من بينهم فرادى وجماعات، يوميا، ليغذوا غرائزهم، يفرضون أنفسهم و يمددون بقاءهم عبر التضحية بهم لآلهة يتقنعون بها، لبث رسالة الترويع للجميع. لا أتحدث هنا عن داعش، العملة اليومية السائدة، وجرائمها. جرائم داعش أو الدولة الإسلامية أو القاعدة، واضحة مدانة لا تغلفها «الديمقراطية»، دين العصر.
أتحدث هنا عن رجال ونسوة، طالما وصفوا أنفسهم كضحايا للطغيان في حقبة ماضية. ليصبحوا، حالما جلسوا على مقاعد السلطة، جلادي وقتلة الحقبة الحالية. تساندهم جوقة تجلس في مبنى يسمى البرلمان، وتحيطهم حشود صامتة تلتقط، بين الحين والآخر، فتات منصب او راتب أو الوعد بحيز في الدار الآخرة مع شهداء الصراعات الإسلامية القديمة.
قبل يومين، عند نقطة تفتيش وهمية، انتقى البرابرة بأزيائهم العسكرية، عشر رجال في طريقهم إلى بيوتهم ببغداد. كان من بينهم محمد قاسم الجنابي ( 29 عاما) ووالده وعدد من أقاربه. بعد ساعات عثر على جثثهم، باستثناء شخص واحد، مرمية تحت جسر، بمنطقة الشعب، شمال شرقي بغداد. ومضى البرابرة السائبون، ملتفين بظلمة الليل، بعد ان أشبعوا غريزة تعطشهم للدم.
كيف تم تدجين أنسانيتنا لئلا نغضب ونثور حين نسمع بوقوع الظلم على أنفسنا؟ نبرر للقتلة جرائمهم بحجج تستنبط وتباع حسب الطلب من حماية الأمن القومي إلى محاربة الارهاب؟ أم انه الموت اليومي، الزائر المألوف، لم يعد بحاجة إلى طرق الباب ليدخل حياتنا، ليسلبنا احباءنا؟
رأيت، عبر مواقع التواصل الأجتماعي، صورا لمحمد بعد اغتياله غير انني مسحتها بسرعة عن عيني، لأراه كما كان. كما رأيته، قبل اسبوع من مغادرته لندن إلى بغداد، بعد ان نال شهادة الدكتوراة في القانون التجاري من جامعة غلاسكو. تحدثنا يومها عن العراق، عن وطن نحمله في خلايانا ولا نغادره مهما ابتعدنا. أشعرني تصميمه على العودة بسرعة كي يدرس في احدى الجامعات ويعمل في آن واحد في مكتب أهلي « ليساعد أكبر عدد من الناس وعدم الاكتفاء بتدريس عدد من الطلبة فقط « حسب تعبيره. أراد ان يكون بجانب والده وأهله، أيضا، ليساعد في حملة اعادة النازحين إلى بيوتهم، خاصة من تم تهجيرهم اثناء القتال بين داعش وقوات الحكومة ومنعوا من العودة إلى بيوتهم في ضواحي مدينته اللطيفية الواقعة حوالي 20 كيلومترا جنوب بغداد، أو في منطقة جرف الصخر المجاورة. « لئلا يتم الاستيلاء على بيوتنا كما حدث للفلسطينيين». ظل يكرر رسالة والده بأن الاولوية، الآن، هي اعادة النازحين إلى بيوتهم بدلا من التشرد والعيش في الخيام. النازحون السنة ليسوا ارهابيين. أليس العيش في بيت حقا من حقوق الانسان الاساسية؟
لم يكن محمد أرهابيا أو داعشيا أو طائفيا. كان شابا في مقتبل العمر متحمسا لوطنه، رأى في الدراسة والتحصيل العلمي، مثل معظم العراقيين، سلاحا للمعرفة والتقدم. كان، بالنسبة إلى اصدقائه ومعارفه، « ابن عشائر» بالمفهوم السخي بعواطفه ووقته وماله وان كان مدعاة فخر عشيرته في تحصيله الدراسي اولا. في رسالة موجهة اليه على موقع عشيرة الجنابيين، عثرت على رسالة بعنوان « من كفاءات شباب العشيرة في الغربة… ونحن بانتظارك». تمت الاشارة فيها إلى نيله درجة الماجستير بقانون العقود الدولية و إلى مواظبته على اكمال دراسة الدكتوراة وتقديمه رسالته الموسومة «المخالفة الجوهرية في عقود التجارة الدوليه». كان بامكان محمد الا يتعب نفسه بالسفر والغربة للدراسة بل ان يشتري شهادته، كما هو حال العديد من مسؤولي ووزراء النظام الحالي. ولم لا ومستوى التعليم العراقي في الحضيض ومكاتب بيع رسائل الماجستير والدكتوراة الجاهزة منتشرة. كما كان بامكانه البقاء، مثل الكثيرين من حملة الشهادات العليا، في بريطانيا. الا انه اختار العودة إلى أهله « و إلى بلده العراق الذي هو بأشد الحاجة اليه وامثاله ليكون قدوة حسنة لأقرانه ليواظبوا من اجل العلم والمعرفة».
فما الذي حدث يوم الجمعة 13 شباط / فبراير؟
كان محمد بصحبة والده وابن عمه النائب زيد الجنابي، في طريق العودة من اللطيفية حيث ديوان الشيخ قاسم الجنابي، إلى بيوتهم ببغداد، الساعة السابعة مساء، حين أعترضتهم عناصر ميليشياوية ترافقها قوة امنية في منطقة ابو دشير جنوب غربي بغداد. اختطفت الميليشيا محمد ووالده وثمانية آخرين، واقتادتهم إلى منطقة الشعب، شمال بغداد، واعدامهم هناك. الوحيد الذي نجا من المجموعة هو النائب زيد الجنابي الذي تحدث عن ميليشيا مزودة باحدث الاسلحة.
من الثابت الآن ان الميليشيات الطائفية، على رأسها ميليشيا فيلق بدر وعصائب اهل الحق وجحافل الحشد الشعبي، تهيمن على الحكومة علنيا، خاصة وان وزير الداخلية، المسؤول عن حفظ الأمن وحماية حياة المواطنين، هو قيادي في ميليشيا بدر وكان تعينه وزيرا خيار قائد تلك المليشيا المدعو هادي العامري الذي لا يسبح ولا يحمد الا باسم فيلق القدس الأيراني. أما دور الحكومة فهو توفير الوجه «الحليق» للعالم الخارجي. ويبقى دور «ممثلي الشعب» من خارج التحالف الوطني وميليشياته، كالجبوري والنجيفي والمطلك وعلاوي، اضحوكة الاضاحيك ومهزلة المهازل اذ حالما يتم اعتقال أو اختطاف او اتهام احدهم بالارهاب حتى يخرجوا من قاعة البرلمان ( من القاعة وليس من المبنى خشية ان يمنعوا من الدخول بعدئذ) احتجاجا ثم يجتمعون، في بيت احدهم، لصياغة موقف، ويظهرون في مقابلات تلفزيونية مهددين بالانسحاب، ثم يبدأون العودة الواحد بعد الآخر إلى قاعة العرض البرلماني، وكأن شيئا لم يكن. فمن منهم يتذكر مثلا زميله النائب أحمد العلواني المرمي في احدى الزنزانات الآن بانتظار تنفيذ حكم الاعدام ؟ وكم يوما سيتذكرون ما جرى للنائب زيد الجنابي واعدام عمه قاسم ونجله محمد؟
ولصب الملح على جروح أهل الضحايا وللاستهزاء بالمواطنين، دعا النواب إلى تشكيل لجنة تحقيق بـ « الحادث»، على الرغم من معرفتهم بان حكومات الميليشيات والفساد المتعاقبة لم يحدث وأعلنت عن نتائج تحقيق واحد، ولم يحدث وان عوقب مسؤول او ميليشيا على جريمة ارتكبتها مع علم الجميع بمن ارتكبها.
ان اغتيال محمد ووالده وأقاربه هو رسالة ترويع، تضاف إلى مئات سبقتها، لأجبار سكان مناطق معينة على النزوح والعمل بكل الأدوات الاجرامية المتوفرة على منعهم من العودة ايضا. فتغيير الخارطة السكانية وتفتيت العراق لم يعد مجرد تكهن بما سيحدث. أنه ما سيحدث اذا ما بقي البرابرة بيننا. الشباب، كما محمد، يعرفون ذلك ويعملون على تغييره، ان يضعوا حدا لدائرة الانتقام، ليعيدوا للعراق أهله وألقه، مع ادراكهم بانه قد يكلفهم حياتهم.