كلمة «المدني» في هذا المقال تفهم من مقابلتها مع كلمات «الديني» و«العسكري» و«القبائلي»، هي كلمة تعبر عن «الفرد» وقدرته على الاختيار بحرية بين بدائل متعددة، والمبادرة سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. هي كلمة حديثة نسبيا، ومرتبطة بالعصور الحديثة، وعملية الحداثة والتحديث التي تلم بالمجتمعات خلال تطورها، وهي محملة بمعاني التفوق على أقرانها باعتبارها من ناحية تعتمد على السلوك الطوعي للإنسان، مقارنة بالسلوك الناجم عن منظومة مقيدة بالتقاليد والأعراف والنظم لحريته الشخصية. وهي بهذا المعنى مرتبطة بالمجتمعات الديمقراطية الصناعية المتقدمة في الغرب، إذ يقوم المجتمع بتقسيم العمل بين فئات وجماعات لها مصالح مختلفة، ولكنها متكاملة في مجموعها إلى الدرجة التي تمنع حدوث الصراع الاجتماعي العنيف أو الحرب الأهلية. وكبديل للصراع يكون هناك التنافس من خلال ساحة واسعة من الأحزاب السياسية، وجماعات المصالح المنظمة، فتكون هناك الانتخابات وأهم نتائجها تداول السلطة.
مثل هذا «السيناريو» جرى تصوره في أعقاب الأحداث التي جرت متسارعة منذ شتاء عام 2011، وأطلق عليها أسماء «الثورة» و«الربيع» والهبات الجماهيرية، إلى آخر الأسماء التي تشير إلى حالة كثيفة من الحراك الجماهيري الذي كان مؤكدا أنه يرفض الأوضاع القائمة، ولكن لم يكن هناك مؤكد آخر في ما يخص أوضاعا جديدة. ومع الشتاء الرابع بعد الأحداث الكبرى فإن هذا «السيناريو» لا يبدو إطلاقا في متناول اليد ربما باستثناء الحالة التونسية التي لا يزال الحكم النهائي بشأنها مفتوحا. وعلى العكس من ذلك، فإن حالات اليمن وليبيا وسوريا معرضة لحالة من الانفراط والتفكك للمجتمع والدولة، وبينما نجت الحالة المصرية من انهيار الدولة فإن الصعوبات بالغة من أجل بنائها، وكذلك الحال مع البحرين التي ارتبط فيها الحراك السياسي بالتدخل الأجنبي الصريح من جانب إيران. في دول عربية أخرى ظهرت الأعراض الخطرة للحراك السياسي والاجتماعي، ولكن النخب التقليدية كانت هي التي أنقذت الموقف، وخرجت من لحظات الأزمة بأقل الخسائر الممكنة.
لماذا جرى الفشل في التجاوز الناجح للمرحلة الانتقالية بعد الثورات كما حدث في شرق أوروبا وأماكن أخرى من العالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة؟ تم توزيع اللوم فيه على أطراف عدة، فكان أولها «النظام القديم» الذي جرت الثورة ضده، وتم ترويعه وتفتيته، وتحميله كل أسباب التخلف والعجز عن التقدم. كانت الحجة الجاهزة هي أن الأشخاص تسقط ولكن النظم تبقي، فمبارك سقط ولكن نظامه بقي، ومهما قيل عن القذافي فإنه لم يكن لديه نظام يذكر حتى يبقى، ومع ذلك تحمل جزءا كبيرا من الذنب، وكذلك ظل علي عبد الله صالح متهما، أما بشار الأسد فلم تكتمل معه ثورة ولا قام ربيع، وإنما تفتت الدولة على يديه. وثانيها كان الجيش الذي تحمل مسؤولية الفترات الانتقالية سواء في مصر أو اليمن، فقاد البلاد إلى ظروف سمحت لجماعات منظمة وممولة تمويلا جيدا للسيطرة على البلاد. وثالثها أن هذه الجماعات ارتدت عباءة الدين، ومعه إنكار الدولة الوطنية، ومن ثم حملت في طياتها أكبر عمليات التفكيك للدول العربية التي أصيبت بلعنتها.
هذه الأسباب الثلاثة ربما كان فيها جزء من الحقيقة، ولكن طرحها من جانب أحزاب وجماعات مدنية جعل هذه الأخيرة تفشل في طرح سبب رابع يتعلق بالمسؤولية التاريخية للأحزاب والجماعات وحتى الشخصيات المدنية عن حالة الفشل التاريخي الذي قادت بلادها إليه. ففي كل البلدان التي خاضت مراحل التحول هذه من الاستبداد إلى الديمقراطية كانت هناك ذات العناصر التقليدية والمنتمية إلى النظام القديم، وتلك المتجسدة في التنظيمات الأمنية والعسكرية المختلفة، بل وفي بعض الأحيان كانت هناك جماعات فاشية أو دينية تلعب أدوارا رجعية مستندة ليس بالضرورة إلى قبائل، وإنما إلى جماعات ومناطق إثنية وجهوية. ولكن باستثناء حالة أوكرانيا، وإلى حد ما رومانيا وصربيا، فإن الجماعات المدنية كانت هي التي وضعت نسيج نقل المجتمع والدولة من حالة استبدادية إلى الحالة الديمقراطية وتوابعها في اللحاق بالاتحاد الأوروبي أو منطقة اليورو أو حلف الأطلنطي.
في حالتنا كان الفشل المدني هائلا، ولعل الحالة المصرية توضح ذلك بجلاء، فعندما انفضّ سامر ميدان التحرير مع سقوط مبارك في 11 فبراير (شباط)، بدت الجماعة المدنية المصرية حائرة في معرفة ما تريد تحقيقه. كانت «الجمعية المصرية للتغيير» بقيادة الدكتور محمد البرادعي قد ظهرت في الميدان وكأنها صاحبة الثورة كلها، وبينما كان الإخوان والأحزاب المختلفة تتفاوض مع «السلطة»، فإن «الجمعية» بقيت على ضرورة تغيير النظام. ولكن بعد مغادرة مبارك، وتولي المجلس العسكري السلطة، فإنه لا الجمعية ولا الأحزاب المدنية الأخرى، ولا جماعات وائتلافات الشباب المختلفة الأخرى، كان لديها ما تقدمه سوى الحديث عن الديمقراطية، وكان أغلبه على شاشات التلفزيون وشبكات الإنترنت. وبدا كأنما أخذت كل هذه الجماعات المدنية بالمفاجأة عندما اختار المجلس العسكري لجنة لتعديل الدستور بقيادة المستشار طارق البشري، وكأنه لم يكن ملحوظا أن الإخوان المسلمين يحاولون ملء كل فراغ ممكن في ساحة الحوار السياسي. وعندما تمت صياغة التعديلات الدستورية، واختلفت معها القوى المدنية، فإن هذه الأخيرة وجدت موقفا أخيرا في ضرورة وضع الدستور أولا قبل الانتخابات البرلمانية. ولكن الجماعة المدنية كانت قد خسرت المعركة قبل أن تبدأ، بل إن خسارتها كانت فادحة إلى الدرجة التي جعلتها تتعلق بأهداب الإخوان فتؤيد انتخاب محمد مرسي رئيسا في ما عرف بوثيقة «فيرمونت» الشهيرة.
المدهش أنه عندما لاحت فرصة أخرى للجماعة المدنية بعد ثورة يونيو (حزيران) 2013، وظهر البرادعي في مقدمة الصورة وقبل كل ممثلي الجبهة الوطنية للإنقاذ وشباب «تمرد» والأزهر والكنيسة الأرثوذكسية والنساء، وتم تعيينه نائبا لرئيس الجمهورية، فإنه سرعان ما تخلى، ومعه عدد من «الليبراليين» وقادة الجماعات والأحزاب المدنية، عن الثورة في مواجهتها الدموية مع جماعات الإخوان المسلمين المتحالفة مع جماعات إرهابية متعددة. ولكن ذلك لم يكن آخر مواقف الخذلان المدني، بل إن الوضع الراهن في المقدمة إلى الانتخابات التشريعية، فإن ما تقدمه الجماعة المدنية في مصر يشكل خليطا من التراجيديا والكوميديا، بين من قرر المقاطعة والهروب إلى ساحة الإعلام، والمشاركة عن طريق تحالفات لا تحمل سياسة ولا محتوى ولا نظرة مستقبلية، ما دام الجمع لا يكف عن إلقاء اللوم مرة على النظام القديم، ومرة أخرى على الجديد، ومرة ثالثة على كل الأطراف الأخرى ما عدا الطرف المدني. ولله في خلقه شؤون!