ليبيا قضية مصرية

اثنين, 2015-02-23 09:56
عبد الحليم قنديل

سقطت أوراق التوت عن العورات، وانكشفت عداوة أمريكا العارية لمصر، ورغبتها في تحطيم الدولة المصرية، بل واغتيال الرئيس السيسي نفسه لو استطاعت.
تحركت واشنطن بخشونة وتعمد ظاهر بعد الضربة الجوية المصرية لأوكار «داعش» في ليبيا، واستقطبت توابعها من دول الغرب الأوروبي في بيان تعبئة ضد التحرك المصري، يدعي رفض التدخل العسكري الدولي ضد الإرهاب في ليبيا، ويفضل ما يسميه حلا سياسيا، يدمج الإخوان ودواعشهم في ما يسمونه بحكومة الوحدة الوطنية.
ولا جديد في العداء الأمريكي لمصر، فواشنطن مفزوعة من التحولات الكبرى الجارية في السياسة المصرية، ومن شراكة القاهرة الاستراتيجية الفعالة مع الصين وروسيا، ومن إحياء البرنامج النووي السلمي المصري، ومن القفزات الهائلة في تسليح الجيش المصري، ومن إلغاء الجيش المصري عمليا لمناطق نزع سلاح سيناء، التي كانت قد فرضت بالملاحق الأمنية لمعاهدة العار المسماة بمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، والتي عقدت برعاية أمريكية، وضمنت واشنطن لإسرائيل فيها حق الوصاية على مصر، وتبعتها المعونة الأمريكية الضامنة لإضعاف مصر وجيشها، بينما تبدي القاهرة الآن قمة اللامبالاة بالمعونة الأمريكية، والسخرية من تهديدات أمريكا بخفض أو قطع المعونة، فلم تعد مصر بحاجة إلى قيود المعونة المذلة، ولا إلى ملياراتها المسمومة، ولم تعد مصر تعتبر أن لها علاقة خاصة بواشنطن، ولا أنها مضطرة إلى مسايرة الأمريكيين في السياسة العربية والإقليمية والدولية.
وصارت مصر تنسق مع روسيا بأكثر مما تلتفت إلى واشنطن، ولم تعد القاهرة تتشاور مع واشنطن، ولا تستمع إلى أوامرها، كما جرت العادة عبر أربعين سنة خلت، فقد وضعت حوادث 30 يونيو 2013 ـ وما بعدها ـ حدا نهائيا لسيرة احتلال أمريكا السياسي لمصر، فقد تحرك الجيش المصري لمرتين داخليا عبر الأربع سنوات الأخيرة، تحرك لنصرة ثورة الشعب المصري في 25 يناير 2011، وكانت واشنطن وقتها على الخط، تعرف وتوافق، ثم تحرك الجيش المصري مرة ثانــــية لنصــرة ثورة الشعب المصري في 30 يونيو 2013، وبدون أن توافق واشنطن أو يؤخذ رأيها هذه المرة، فقد تحطمت التصورات الأمريكية للمنطقة مع ما جرى في القاهرة.
ولم تثمر محاولات واشنطن لاحتواء النظام الجديد في مصر، فقد تكون في مصر ألف مشكلة ومشكلة، وقد نختلف مع النظام القائم في قضايا داخلية جوهرية، لكننا في قضية الوطن قبضة يد متحدة، وأمريكا هي المكروه الأول عند الرأي العام المصري، واندماجها الاستراتيجي مع إسرائيل يضاعف من عداوة المصريين، وتخريبها لمصر عبر عقود يؤكد العداوة ويرسخها، ويمنحها نفسا سياسيا إضافيا، يهفو إلى استعادة الاستقلال الوطني كاملا، ووصل ما انقطع مع سيرة النهوض المصري الجبار في الخمسينيات والستينيات، وحتى حرب أكتوبر 1973، وإخراج المارد الوطني المصري من القمقم، وإعادة ترتيب أوراق المنطقة المضطربة، وبصورة تجعل الكلمة العليا لمصر، فهي القائد الطبيعي التاريخي لتطورات المنطقة العربية. والقاعدة الحاكمة استراتيجيا معروفة، فمصر هي حجر الزاوية ووتد الخيمة، وإذا صعدت مصر صعدت المنطقة، وإذا غابت مصر غاب دور العرب في صناعة التاريخ، وهو عين ما جرى في عقود الهوان الأخيرة، التي صارت المنطقة فيها رهينة لأدوار هجينة أمريكية وإسرائيلية وإيرانية وتركية، وكان طبيعيا أن تفزع أمريكا مع الضربة الجوية المصرية لقواعد الإرهاب في ليبيا، ليس لأن الضربة تخالف قواعد الشرعية الدولية، فالضربة شرعية تماما، وتمت بالتنسيق مع الحكومة الليبية الشرعية المنتخبة المعترف بها دوليا، وهو ما أفزع أمريكا أكثر، فهذا أول تحرك عسكري مصري ـ منذ حرب أكتوبر ـ يتم بدون أن تعلم به واشنطن مسبقا، وهي التي اعتبرت نفسها لعقود في مقام «الوصي الشرعي» على تصرفات الحكم المصري، وبقدر ما توجهت الضربة إلى مخازن سلاح ومراكز سيطرة وعمليات «داعش»، فإنها توجهت بالقدر نفسه إلى الوصاية الأمريكية الموهومة، خاصة أن الحركة المصرية النشيطة، نجحت في خلخلة المعادلات القديمة، واستطاعت إقامة تفاهم محسوس مع حلفاء قلقين لأمريكا في روما وباريس، فضلا عن تحالفاتها الجديدة المتطورة مع روسيا والصين، ومع حفظ الحد الواجب من علاقاتها المميزة بأهم دول الخليج، وبدون غلق نوافذ الحوار تماما مع إيران، وهو ما يتيح للتحرك المصري مساحات مرونة مستجدة، لا تعلق فيها قرارها على رغبات الآخرين، وتستند في الأساس إلى قوتها الذاتية، وإلى الأولويات الوطنية المباشرة في كسب الأمن وحفظ كيان الدولة المصرية، فقد رفضت القاهرة مرارا عروضا أمريكية وبريطانية بالمساعدة الجوية والإلكترونية في مواجهة جماعات الإرهاب بشرق سيناء، واحتفظت للجيش المصري وحده بحق الحركة الطليقة المستقلة على أرضه، وبدون وصاية ولا نصائح مسمومة، ولا ادعاءات بمساعدات تخفي أطماعا وأدوارا في الداخل المصري.
فمصر تخطط وتنفذ لنفسها وبنفسها، وتستعيد إداركها الغريزي بدوائــــر أمنها الوطـــــني والقـــومي، في الدائرة الكبرى المتسعة لحدود العالم العربي من الماء إلى الماء، وفي الدائرة الصغرى الألصـــق التي تضم فلســـطين المحـــتلة والســـودان وليبيا، وفي هذه الدائـــرة الأمنــية الأضـــيق، فإن مصر لا تنتظر نصائح الآخرين، ولا التشاور معهم، وهي تعرف ما يتوجب عليها عمله بالضبط، وتدرك أن انهيار ليبيا خطر مباشر داهم على أمن الداخل المصري وعلى سلامة الدولة المصرية.
نعم، ليبيا قضية الليبيين، لكنها أيضا قضية وطنية مصرية، ومن كل الزوايا التاريخية والجغرافية والأمنية والاجتماعية، فمصر هي التي أسست الجيش الليبي بعد الاستقلال زمن الملك السنوسي، وكونت كتائبه الأولى أوائل الخمسينيات بمنطقة «أبو رواش» بالجيزة، وكانت إزالة القواعد الأمريكية والبريطانية في ليبيا مكسبا مباشرا لمصر أواخر زمن القائد جمال عبد الناصر، حول ليبيا من مصدر تهديد مباشر إلى عمق آمن وسند أخوي لمصر، وعلاقات التصاهر والتزاوج والقرابة بين الشعبين المصري والليبي هائلة، فثمة ما يزيد على مليون زيجة مصرية ـ ليبية مشتركة، ولك أن تتصور هذا الحجم المهول من امتزاج الدماء، فوق التداخل البشري القبلي الممتد على جانبي الحدود، فوق إقامة ما يزيد على مليون ليبي في مصر، ومن شعب ليبي يزيد مجموع تعداده عن الستة ملايين بقليل في الوطن والمنافي القسرية، وقد زادت ظاهرة الامـــتزاج المصري الليبي في العقود الأربعة الأخيرة، لكنها كانت قائمة طوال الوقت قبلها، وكان الملك السنوسي وقت حكمه يقيم نصف شهور السنة في مصر، وقبل أن ينتقل للإقامة الكلية في مصر مع صعود حكم القذافي، ورغم توترات كانت تثور أحيانا زمن ديكتاتورية القذافي، ولأسباب متنوعة، ظلت الصلات الشعبية تـــزداد وثوقا، ولم يتعكر صفوها إلا بعد انهـــيار الدولة الليبية تحت ضربات أمريكا وحلفها الأطلنطب، وبدء فوضى دخل من ثقوبها الغرباء الإرهابيون، وبدعم أطراف إقليمية معروفة بعدائها لمصر وخدمتها المزمــــنة للسياسة الأمريكية، وهو ما تضاعفت وتيرته بعد ثورة إزاحة حكم الإخوان في مصر، والفشل المدوي لجماعة إخوان ليبيا في انتخابات البرلمان الأخيرة، كان طبيعيا أن يكون الإيقاع المصري هو الأقوى في الدراما الليبــــية، وكان طبيعيا أن تكون الحكومة المنتخبة هي الأقرب لمصر، وهو ما جــــرى شيء منه في تونس الأبعد جغرافيا عن مصر، وهكذا تكونت ملامح المعركة الجارية الآن على الأراضى الليبية.
ولا تريد مصر شيئا من ليبيا، إلا أن تكون واحة للأمن، لا مصدرا للخطر على الداخل المصري، فمصر ليست في خيار بين أن تتدخل أو ألا تتدخل، وقد لا تريد السياسة المصرية، ولا تفكر في الدخول البري للأراضي الليبية، وهو موقف صحيح تماما، وبدون التدخل البري، هناك ألف خيار وخيار للقاهرة في ليبيا، وعليها أن توسع خياراتها، وأن توسع نطاق حلفائها الليبيين، وأن تسعى لحكومة ليبية موسعة، وألا تستثني أحدا سوى الداعشيين، ومن يبادرها بعداوة من الدمى الأمريكية، وأن تضرب في الزمان المناسب وفي المكان المناسب، وبالكفاءة نفسها التي ظهرت في ضربتنا الجوية الأخيرة.
نعم، خيارات مصر السياسية والعسكرية كثيرة في ليبيا، وليس من بينها اختيار الاستعانة بواشنطن، فأمريكا هي الطاعون كما كان يقول محمود درويش، والجديد: أن مصر تقول الآن عمليا «طظ في أمريكا»، والله المستعان.