سؤال الإرهاب عن أصوله الميتافيزيقية

اثنين, 2015-02-23 09:58

كان الشعار الرئيسي والأوحد لاقتحام (الربيع) للزمن العربي الرديء الراهن هو كلمة واحدة، إنها الحرية. وهاهي سنوات أربع وأكثر تتابع لتنجلي معطيات الواقع عن أبشع نقائض الحرية من الظواهر العامة، وعن ألد أعداء الحرية من الممسكين بمصائر الدول ومجتمعاتها معها.
نعلم أن الثورات قد تكشف عورات الواقع الفاسد، تُخرج الديدان السوداء من جحورها الراسبة في قاع المستنقع، ما معناه أن التحدي الثوري قد يعرّي الأعطال الخبيثة من أقنعتها المصطنعة، يجردها من أدوارها السطحية الملتبسة، يضطرها إلى الدفاع عن ذاتها، مستنجدةً بأخطر أسلحتها الأصلية المتبقية لديها بعد فقدانها للكثير من أساليب نفاقها السياسي والإداري لعصرها الذهبي ما قبل الثورة.
لكن الثورة لا توقظ أعطالاً نائمة أو متخفية فحسب بل قد تجتذب إليها. معها أو ضدها. خـــلائط من عناصر الهدم الكثير والبناء القليل. فالبلد الثائر ليس فاقداً حدوده الحقيقية فحسب. بل هو مدخول على أفكاره وعقائده كما هو على مكونـــاته التنظيمية.
فينعكس كل هذا المزيج على صخب المعارك الميدانية، حيثما تتحلّل ثقافة ما يسمى بـ(العنف الثوري) إلى فعالية القتل وحدها. هذه عواصم المشرق تعيش على إيقاع الأخبار اليومية الواردة إليها من عديد الجبهات الحربية وأشباهها المفتوحة في جوارها، وفيما يغطي المراكز المدنية والريفية في مناحي جغرافيتها. فعالية القتل وحدها، هل هي التسمية الحقيقية لكل ما كان له اسم الثورة، بل اسم الحياة العادية لأية جماعة من البشر العاديين، فعالية القتل هذه لم تعد حالة طارئة استثنائية. لم تعد مجرد سلوك منحرف لأفراد وفئات. فمن لا يزال يعيش في كنف هذه الأجواء لعلّه فَقَدَ منذ زمن طويل حسَّ المقارنة بين أحواله الراهنة وما كانت عليه حياته السابقة على عصر القتل الذي صارت له وحده كل الدولة والسلطات، وقد فرض على الجميع قوانينه وأخلاقه. ولكن ما فرضه سريعاً ما تبناه ضحاياه، ومن عَجَزَ عن هذا التلاؤم يصير منقطعاً عن أية صلة له نادرة بالشخصية العامة لثقافة القتل المهيمنة.
أنها المؤالفة التي تصير من طبيعة الأمور اليومية، مع الموت، حتى عندما تُطلق على الموت صفاتٌ لغوية لا تكرر حروف ملفوظته من مثل الجهاد والشهادة والتضحية، فإن الموت ينزاح عن دلالته الأصلية، لن يكون هو آلة العدم. إنه الطريق إلى عالم الملأ الأعلى. إنه السبيل الأخير إلى التحرر من عالم الفساد الأدنى، صاعداً إلى رحاب الوجود الأسمى، فليس الموت عبوراً رهيباً للمقبلين عليه، لن يكون مثارَ الخوف والهلع واليأس، ليس هو مصيرَ الزوال والفناء المحتوم لكل حي. بل هي الحياة نفسها وطن النقص والسلب والحزن والعذاب، أما الموت فهو مبعث الخلود والمأوى الأخير للأمن والبقاء الأبدي، فحين تصل أمة ما إلى لحظة يأس أو أمل مطلق (واهم) لِتقرر تأجيل حياتها إلى موعد مع عالم آخر. هل هذا يعني أن جيل الشباب الصاعد في هذه الأمة قد عيل صبره، ما بعد آبائه وأجداده، من خيبات العجز المتراكمة، ما بين ثورة فاشلة وأخرى محبطة أو مخترقة أو مغدورة ومسروقة، فلم يعد يأسه وليد خيبة معينة، بل هو اليأس الحاسم من التغيير نفسه، أي من قدرة (الإنسان) نفسه على تغيير عالم الفساد من حوله، إنه السقوط في المربع الأول من الحصار الوجودي، حسب التعبير الفلسفي، الذي لا منفذ منه إلا نحو حصارات أخرى، هذا هو عالم الفساد، كل تغيير فيه لن يكون إلا من طبيعته، أي فانياً متناهياً.
إذا كانت ثورات الحرية العربية قد أيقظت أصناف الوحوش النائمة من أعطال الانحطاط الذاتية، فهي أسقطتها تحت ألاعيب الاستثمار السياسوي، وخاصة من قبل أعداء الخارج، ولكن هذه الوحوش نفسها منحت فرصاً تاريخية لأهم عطل نام في كينونة الثقافة العربية الإسلامية، وباعتبارها، من مستوى أنطولوجيا النهضة، أي ليست من طبيعة حدثية أو مادية مباشرة فقط، وليست ذهنية خالصة، فإن لها شأناً ميتافيزيقياً، كانت له تأثيرات كبرى وحاسمة في أركيولوجيا التكوين الإنساني للحظات صعود وأفول التاريخ النهضوي، فقد اشتكى هذا التاريخ من جمود الفكر العربي إزاء استعصاءات العلاقة السوية بين أسئلة العقل وحاكمية النصوص التراثية، لم تبق هذه الاستعصاءات حبيسة في البعض القليل من الصوامع المعرفية شبه المنعزلة عن الحراك الجماهيري، فقد كانت تمتد نحوها أذرع شاردة من السياسة الشارعية بين منعطف مصيري أيديولوجي وآخر، ولكن أسئلة العقل بقيت خرساء صماء عن أية أجوبة فاصلة. ذلك أن الانحطاط الحضاري كان يمارس ذلك النوع الأخطر من فعالية القمع الشمولي والباطني، كان هو الأسبق علي عصر القمع السلطاني. فحين حلّ أوان الاعتراض الجماهيري ضده، ظل القمع الثقافوي في منأى عن كل استهداف موضوعي نظامي، بل اندفع إلى استثمار الاضطراب الثوري في المجال العام، لكي يعوض عن القمع السياسوي – السلطاني المهدد بالانهيار، بتفعيل جذوة القمع الباقي، من كونه قوة رقابة وردع يمارسه الشخص المتديّن على ذاته، متحولاً إلى جاهزيات العنف، معمّمة على ذوات الآخرين، على المجال العام بأسره.
كيف يمكن لثورات الحرية أن تنقلب ذاتياً اجتماعياً إلى مجرد حوامل موضوعية لجاهزيات – آلات القمع، فذلك ليس مجرد عارض انحرافي، من صدف الحوادث اليومية، أو أنه صنيــــعة (المؤامرة) الدولية الخبيثة المعهودة، قد يكون كلَّ هذا، بيد أن الأدهى في أحجيته هو أن الإنسان ـ ليس العربي والإسلامي وحدهما ـ ربما أنه وصل إلى ما يشبه ذروة كوارثه، هارباً مطارداً أمام ديمومة عجزه المضطرد من أزمة حضارية كبرى إلى أخرى أعقد وأعظم، أي عجزه عن اجتراح علاقة سوية بين الناسوت واللاهوت.
من هنا كان للثورات التاريخية أن تكتسب شرعيتها الأخلاقية من قدرتها على تذكير الشعوب الناهضة، أو بعض عقولها النادرة، باستعادة تلك الإشكالية الدهرية، لكن قلما كانت أفعال التذكير ناجعة، ذات جذوى، ومع ذلك لم تسقط النهضة من مسيرة التاريخ، ولم يبلغ التاريخُ نهايتَه في أي من عصوره المظلمة أو النيرة، فما لم يأت به الماضي بعْدُ، لم يجسده أي حاضر، ولن يأتـي به مستقبل ما.. لم لا!
٭ مفكر عربي مقيم في باريس