برنامج على خطى العرب حيث يُستنطق المكانُ- 2

ثلاثاء, 2015-02-24 08:50

قلنا في الجزء الاول من المقال إن برنامج على خطى العرب في قناة العربية، قطع فريقه مسافة 24 ألف كم غطت أنحاء بلادنا عدة أشهر، استدل على أطلال الشعراء العرب أصحاب المعلقات، وبعض شعراء وشاعرات العصر الإسلامي، وتتبع مرابع ما تبقى من آثارهم، وآثار من سبقهم من الأقوام، في عمل غير مسبوق بالصوت والصورة، مستعيناً بوسائل الرصد الإلكترونية الحديثة، وبالمراجع العلمية للبلدانيين العرب مثل: ياقوت الحموي، ومن المحدثين مثل: محمد بن بليهد، وحمد الجاسر، وسعد بن جنيدل، وعبدالله بن خميس، ومحمد العبودي.

تقوم فكرة البرنامج على عناصر ثلاثة تشكل حسب د.اليحيى سعادة الإنسان الوطنية، وهي : أنثروبولوجيا، وإركيولوجيا، وجيولوجيا وطنه نظرياً وتطبيقياً. وهذه عناصر أساسية، تقوم عليها الدولة الوطنية – حسب اليحيى - وكيف أن الدولة عندما تتبناها، ثقافياً، وتربوياً، وفنياً في المجتمع، فإن ذلك يؤدي إلى التطبيق العملي لمفهوم السعادة الوطنية، التي تجعل كل فرد من أفراد المجتمع إيجابياً تجاه وطنه، ولغته، وتاريخه؛ وهذا أساس مفهوم الهوية الوطنية في الأمن الفكري والاقتصادي لأي مجتمع متقدم.

والعناصر الثلاثة هي: تعريف المواطن بأنثروبولوجيا وطنه، وهو العلم الذي من مهامه دراسة ماضي البشر ثقافياً واجتماعياً، وإركيولوجيا وطنه، أي علم الآثار، وهو علم يختص بدراسة مخلفات الإنسان المادية، ويسهم في رسم صورة عن معالم الحياة في المجتمعات القديمة، ما يشكِّل رافدًا مهمًا في إغناء معلوماتنا عن المجتمعات القديمة، وجيولوجيا وطنه، أي علم الأرض، الذي يبحث في خصائص الأرض من حيث تركيبها وكيفية تكوينها والحوادث التي وقعت في نشأتها الأولى.

ويقول د. اليحيى : " إن الأنثروبولوجيا أحد معالم تشكيل الهوية الوطنية في المملكة ؛ حيث لدينا مخزون هائل من معالم التاريخ والثقافة والفكر، ولكنها للأسف مندثرة تحت الأرض، وأنا من خلال هذا البرنامج حاولت أن أحرث الأرض في الجزيرة العربية وأخرج هذا المخزون لينتفع به المشاهد، وليتعرف على تاريخ بلاده الحقيقي وأهميته، وهذا ما يجب أن نسعى إليه في جميع المناشط التربوية والثقافية، وهو معمول به في البلدان المتقدمة، لأن السعادة الوطنية تؤدي إلى الإيجابية التي تجعل الفرد منتجاً ومؤثراً وفعالاً في مجتمعه، فعدم ارتباط الشباب بأرضه هو الذي يجعلهم فريسة سهلة لأرباب الإرهاب، لكنهم عندما يجدون شيئا يعملون لأجله يحبونه بما يشكل هوية لهم، لاسيما أن مناهج التعليم فشلت فشلاً ذريعًا في غرس حب الوطن لدى الأجيال ".

وأنا أرى أن سبب ذلك ضعف الانتماء الوطني في المناهج الدراسية التي وضعها الإخونج الذين حقر كاهنهم الأكبر سيد قطب فى كتابه «فى ظلال القرآن» ص 105 شأن الوطن والوطنية، حيث قال إن الوطن " ليس أكثر من قطعة طين "، كما ازدرى جنسية البلد التي يحملها الإنسان فوصفها بأنها " نتن عصبية النسب"!

ويواصل البرنامج سيره عبر بلادنا المترامية الأطراف، فيقف بنا على :

- وادي دحيس، الذي ذكره الشنفري شاعر جاهلي، يماني، من فحول الطبقة الثانية وكان من فتاك العرب وعدائيهم، وهو أحد الخلعاء الذين تبرأت منهم عشائرهم ومن أشهر شعراء الصعاليك، وصاحب لامية العرب وكان يغير على أعدائه من بني سلامان، عاش الشنفرى في البراري والجبال وحيداً حتى ظفر به أعداؤه فقتلوه قبل 70 سنة من الهجرة النبوية. وكان عمر بن الخطاب يقول : علموا أبناءكم لامية العرب.

قتيلي فخار أنتما إن قتلتما

بجنب دحيس أو تبالة تسمعا

- جبل خزاز، الذي حدثت فيه معركة بين قبائل عربية، عرفت بيوم خزاز، ويقع جبل خزاز اليوم على بعد ٥ كم من بلدة دخنة، التي تقع جنوب غرب محافظة الرس على بعد (45كم)، قال أحد شعرائهم يصف إيقاد النارعلى قمة الجبل ليهتدي بها أنصارهم :

وليلةٍ بتُ أوقدُ في خزازٍ

هديت كتائبًا متحيرات

ضللنَ من السهادِ وكنّ لولا

سهادُ القومِ أحسبُ هاديات

- جبل التوباد في قرية "الغيل" التي تقع على مسافة (35) كيلومترا شمال غرب محافظة "الأفلاج" (350) كيلومترا جنوب العاصمة الرياض، يعود عمرها لآلاف السنين، شهد هذا الجبل قصة حب قيس بن الملوح وابنة عمه ليلى العامرية، وذلك سنة خمس وستين من الهجرة في عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، مرّ به قيس، بعد فراق ليلى وزواجها، فأنشد قصيدة منها قوله :

وأجْهَشْتُ لِلتَّوْبَادِ حِينَ رَأيْتُهُ

وكبّر للرحمن حين رآني

وأذْرَفتُ دَمْعَ الْعَيْنِ لَمَّا عرفتُهُ

ونادَى بأعْلَى صَوْتِهِ فدَعَانِي

- قرية صُفْينَة ضاربة في القدم وتعرف من العصر الجاهلي بهذا الاسم، تقع بين مكة والمدينة المنورة، وكان يسكنها أيام الجاهلية بنو الشريد من سُلَيمْ، ومنهم معاوية وصخر ابنا عمرو بن الحارث اللذان قتلا قبل البعثة النبوية، وأختهما الخنساء، وقد قالت فيهما عندما نعيا لها :

طَرَقَ النّعيُّ على صُفَيْنَة غُدْوَةً

ونَعَى المُعَمَّمَ من بني عَمرِو

حامي الحَقيقةِ والمُجيرَ إذا

ما خيفَ حدُّ نوائبِ الدَّهرِ

- أبان أو أبانان، وهما جبلان من أشهر جبال وسط شبه الجزيرة العربية (نجد) قديمًا وحديثًا، ويقعان في منطقة القصيم إلى الغرب من مدينة الرس على بُعد 50 كيلومترًا، أحدهما أبان الأسمر (ويقال له قديمًا الأسود) ويقع شمال مجرى وادي الرُّمة والثاني أبان الأحمر (ويقال له قديمًا الأبيض) ويقع جنوب مجرى وادي الرُّمة، وتأتي التسمية بالإفراد (أبان) أو بالتثنية (أبانان) أو بالجمع (أبانات) وكلها لمسمى واحد، ورد ذكر هذين الجبلين كثيرًا في الشعر العربي، ومن ذلك قول امرىء القيس:

كأن أباناً في أفانين وبْله

كبير أناس في بجاد مزملِ

- بلدة تيماء، تقع في شمال بلادنا فى منتصف الطريق بين حائل وتبوك، ومن أشهر معالمها بئرها المشهورة هداج التي لايُعرف لها مثيل فى الغزارة والتدفق ويبلغ محيطا 65 مترا وقد ضُرب بها المثل للرجل الكريم فيقال عنه هداج تيماء، وذكرها الكثير من الشعراء وفي ذلك يقول أحد الشعرا مادحا :

فإن قيلَ من هو قلتُ هداجُ تيما

عده قراح مرتكي للدواهيم

وقد قيل إن ممن سكنها العماليق، وقد ذكرت فى العديد من الاَثار السومرية والآرامية، كما ورد ذكرها في التوراة فى سِفر أيوب وسِفر أشعيا وغيرهما، وذُكرت كثيرا في الشعر الجاهلى، كقول امرئ القيس فى معلقته :

وتيماء لم يُترك بها جِذع نخلةٍ

ولا أُطُماً إلا مشيداً بجندلِ

ولعل أشهر من سكن تيماء السموأل بن عاديا المشهور بالوفاء والذى يُنسب إليه حصن الأبلق، وله قصة مشهورة فى الوفاء حتى ضُرب به المثل، ورغم أن حصن الأبلق لم يعد له أثر الآن إلا أن هناك بعض الخرائب التى يُعتقد انها تخفي أساسات الأبلق.

- مسلة تيماء أو حجر تيماء عثر عليه في قصر طليحان في تيماء، هي عبارة عن حجر رملي يزن 150 كلجم، وطولها 110 سم، وعرضها 43 سم، وسمكها 12 سم، والنهاية العليا فيها مقوّسة وعليها نقش للإله صالم بالآرامية (القرن 5 قبل الميلاد) ويحتوي سطحها كتابات آرامية ومشهدًا دينيًا منحوتًا نحتًا بارزًا، وقد نقلها المستشرق الأوروبي شارل هوبر في عام 1884 حيث تعرض الآن في متحف اللوفر في باريس.

- جبل السمراء، يقع إلى الشرق من مدينة حائل، ويُروى أن حاتم الطائي كان يُشعل نارًا على رأس ذلك الجبل المعروفة باسم "الموقدة"، ليستدل على منازله المسافرون وعابرو الطريق.

- توارن، قرية في واد من أودية أجا الشمالية، ينحدر شمالاً وينتهي عند النفود قرب قرية الصبيحية، وفي وسط هذا الوادي في رأس أجا الشمالي قرية حديثة يمر بها الطريق المتجه إلى الحفير، وفي أعلى الوادي داخل أجا قرية قديمة ذكرها ياقوت الحموي وغيره من البلدانيين باقية منها بعض قصورها وحصونها وسدودها، وكذلك عدة مقابر ومنها مقبرة قديمة فيها قبران مفرطا الطول يقال إن الشرقي منهما هو قبر حاتم الطائي.

ودلت الشواهد الشعرية على أن توارن وما حولها من الأماكن قد عاش فيها حاتم الطائي ورهطه، قال الطرمّاح الطائي :

إلى أصل أرطأة يشيم سحابه

على الهضب من حبران أو توارن

- كهوف وبراكين الشويمس، وكأن للأرض أفواهاً وأسناناً، وكأن الأرض تفغر فاها أو أفواهها. هكذا يخيل لزائر منطقة الشويمس الواقعة على بعد 290 كم عن مدينة حائل، وهو يرى تلك الفوهات العملاقة المتفرقة في أنحاء المكان، مشاهد لا ترى إلا في الأفلام السينمائية أو الوثائقية، وهي مجموعة من الكهوف العملاقة تُشعِر الزائر بالدهشة لوجود مثل هذه المعالم التي لم يخطر يوماً على باله أن منطقة حائل أو سواها تضم مثلها .

ختاما هذا موجز لبعض ما يقدمه هذا البرنامج المتفرد في نوعه ومادته، وهو يفتح الآفاق أمام غير المطلعين على تاريخ أرضنا وجغرافيتها، وتراث العرب الموغل في أعمق أعماق التاريخ، ليعرفوا ذلك كله في سلسلة البرنامج " الذي تكمن أسراره الحقيقية، ومواطن إدهاشه في تفاصيله التي يتحول فيها الكلام المجرد إلى كائن حي يعايشنا ونعايشه " .

أخيرا بقي دور مهم جدا لهيئة السياحة والآثار في أن تولي اهتماما أكبر لهذه المناطق الأثرية التي يعبث بتراثها رعاة الماشية، وينهبها لصوص التراث، وتجار الرخام والأحجار، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا . ولعلنا لا ننسى لأن نذكر كيف أثر الإهمال على منطقة الفاو، التي باتت مهددة بالاندثار نتيجة للرياح والأمطار، التي ستأتي ولا ريب على البقية الباقية منها، إذا بقيت كما هي الآن