في الموضة السياسية

خميس, 2015-02-26 00:47
صادق الطائي

في تصريح لافت للمؤرخ الامريكي ويبستر تاربلي المعروف بمواقفه المناهضة للسياسات الرسمية الامريكية، وفي حوار له مع قناة RT، أشار إلى أن تنظيم «الدولة الاسلامية» هو صناعة أمريكية وأن قيادات هذا التنظيم تربطهم علاقات مميزة ببعض الساسة الامريكيين، ومــــن جانب آخــــر نشرت وكالة رويترز تسريـــبات تفيد بمفـــاوضات تجري بين قيادات من حركة طالبان وبعض الساسة الامريكيين في العاصمة القطرية الدوحة، الغاية منها احتواء الحركة المتشددة في الحياة السياسية الافغانية، ومن المؤمل أن هذا الاجراء سيؤدي إلى خروج الولايات المتحدة الامريكية من المأزق الافغاني، بحسب وصف الوكالة.
الخبران اعلاه نموذجان لما يحدث في منطقة الشرق الاوسط؛ الاول تلقى آلافا من المشاهدات والقراءة على الشبكة العنكبوتية، بينما لم يحظ الخبر الثاني بأهمية او متابعة تذكر من وسائل الإعلام، الفكرة ببساطة أن موضة (تنظيم القاعدة والحركة الحاضنة له طالبان) وما يرتبط بهما أصبح موضة قديمة، وأخبارها لا تحظى بأولوية أخبار «الدولة الاسلامية» الموضة الأحدث في غرف الاخبار.
هل الامر يحتاج إلى ايضاح اكثر؟ في فيلم فرنسي قصير – انيميشن (صور متحركة ) جديد، يحكي في دقيقتين قصة شابين مسلحين يقتحمان مصرفا تحيط به قوات الأمن ومكافحة الإرهاب، يصحبهم رجل دين مسلم يحاول أن يجد حلا أو تفاوضا مع (الارهابيين) داخل المصرف، اذ ينصحهم عبر الهاتف بالقول إن ما يفعلانه لا علاقة له بالاسلام، وإن هذا الامر مما ينهى عنه الدين الاسلامي، فيفاجأ بأجابة الشابين بانهما ليسا مسلمين اصلا، فيقول ذلك للضابط المسؤول الذي يبتهج بدوره وكذلك يفعل مدير المصرف في داخل المبنى، الذي كان يستمع لاجابة الشابين من داخل المصرف، في تعاون مع المهاجمين ويعطيهم كل ما في الخزنة من نقود ويخرجان من المصرف يحيط بهما رجال الشرطة، وهــــم يهللون للشابين اللذين لم يكونا ارهابيين، بل ويمنحانهما بعد ذلك اوسمة لانهما لم يقعا في فخ الإرهاب، كل ذلك يحدث وسط دهشة اللصين! هل وصلت الفكرة الآن؟
يقول احد خبراء الاعلام؛ من سدني إلى باريس إلى كوبنهاغن ولندن وصولا إلى سوريا والعراق وليبيا ومصر، إذا اردت لخبر أن يكون القصة الاولى في الاخبار فما عليك الا أن تصور عملية قتل (يفضل أن تكون مميزة) يصاحب ذلك علم أسود يحوي علامات الدولة الاسلامية وستتلقفه كل وسائل الاعلام، ويغرق المتلقي في سيل من التحليلات التي تأخذه في عرض بحر المؤامرات التي لا يظهر لها شطآن. فلو صرح اليوم أي شخص بأنه يبايع الملا محمد عمر (امير المؤمنين بالنسبة لطالبان) فإن الخبر سيقابل بالضحك من وسائل الاعلام، لان الملا عمر انتهى تاريخ صلاحيته الاعلامية، وبالمناسبة هو مازال حرا إذ لم تثبت أي تقارير موثقة مقتله في افغانستان، بينما مبايعة الخليفة الجديد الأحدث في موضة السياسة (ابو بكر البغدادي) يعتبر خبرا اول، هو وكل ما يتعلق به. وبالمناسبة ايضا لا احد يعرف لحد الان شكل الخليفة الجديد او مكانه في الرقعة الممتدة من الرقة غربا إلى الموصل شرقا، ومن الحدود التركية شمالا إلى حدود محافظة الرمادي المحاذية لبغداد جنوبا، أي في مساحة تفوق مساحة المملكة المتحدة، ورغم ظهوره في تسجيل مصور سابق في الموصل، إلا أن الآراء تباينت حول مصداقية هوية المتحدث. 
في تعليق على صفحات التواصل الاجتماعي على عقوبة نفذتها «الدولة الاسلامية» في الموصل بشابين اتهما بممارسة المثلية الجنسية، حيث ألقيا من مبنى شاهق، في التعليقات على صور الحادث لفت انتباهي تعليق يقول «إنه نوع من التغيير، فقد يمل المشاهد من منظر الذبح؛ «داعش» يتحدى الملل «في استعارة من اعلانات تروج لقناة افلام مصرية، نعم أن «تنظيم الدولة الاسلامية» (داعش) (يتحدى الملل) وفق رؤية اعلامية درست تقنيات وعلوم التلقي لدى المشاهد أو القارئ، فذبح رهائن عرب يثير موجة من الرعب والغضب، ثم التحول إلى ذبح رهائن اجانب مع رسائل مصورة إلى دولهم والسياسيين القائمين عليها، فتدور عجلة الاعلام من جديد مطاردة الخبر الاول، ثم اصبح الامر معروفا ومتوقعا من المتلقي مع كل اعلان لرهينة، لن يتم التجاوب مع الطلب ثم ستذبح الرهينة امام كاميرا فيديو، وهنا يأتي دور كسر الملل، فيتم إعدام الطيار الاردني حرقا هذه المرة لتثور وسائل الاعلام والسياسة وينشغل الباحثون في التراث والفقه فيتصارع فصيلان، الاول يقول إن عقوبة الحرق موجودة في التراث الاسلامي، والاخر يقول إن تنظيم الدولة مؤامرة امبريالية صهيونية غايتها تشويه الاسلام. ويزداد اللغط ليأخذ مداه، حيث توجه القوات الجوية الاردنية ضربات (نوعية) ضد التنظيم في الرقة، ويصرح قائد سلاح الجو الملكي اللواء الركن الطيار منصور الجبور، بأن الطائرات الاردنية قتلت سبعة آلاف ارهابي من «تنظيم الدولة» في عدد محدود من الطلعات! ثم تهفت نار الاعلام بانتظار موجة جديدة.
لا بد من الإثارة في الفيلم الجديد الذي ينفذ في منطقة جديدة، وهذه المرة ليبيا ما بعد نظام معمر القذافي، فمنذ ثلاث سنوات والصراع محتدم بين فصائل وقبائل في ليبيا، والمتلقي العادي لا يعرف بدقة ما يدور في ليبيا ومن يقاتل من، واصبح الخبر الليبي يأتي بالدرجة الثالثة او الرابعة في اهمية الاخبار، إلا أن خبر ذبح 21 مصريا من المساكين العاملين في ليبيا (تم قتلهم كونهم مسيحيين) على يد «تنظيم الدولة» يأخذ اهمية الخبر الاول، ويدق ناقوس الخطر وبشكل مفاجئ، ضوء ماكينة الاعلام، يسلط على أن «تنظيم الدولة» يتمدد في شمال افريقيا ويسيطر على مدن كبرى مثل سرت، وعملية الذبح لم تكن (تقليدية) هذه المرة، فقد تمت على ساحل البحر، وتم القاء الجثث في البحر، انتقاما (للشيخ) اسامة بن لادن الذي ألقى الامريكان جثته في البحر قبل سنوات. وردا على ذلك ولامتصاص نقمة الشارع المصري، يقوم الطيران المصري بشن غارات انتقامية على معسكرات التنظيم في ليبيا ويكبده خسائر وتدعو مصر العالم إلى تحالف دولي يقاتل «تنظيم الدولة» في ليبيا. ولا تقف القصة عند هذا الحد فبعد أن زال تأثير القصة عن الإعلام الذي جاء مصحوبا بردود فعل باردة من المجتمع الدولي وعدم تفضيله إقامة تحالف لمقاتلة «تنظيم الدولة» في ليبيا بل صرح مسؤولو الناتو وغيرهم من المسؤولين الغربيين، بأن الافضل في الحالة الليبية هو الحل السياسي.
إذن آخر صيحات الموضة السياسية «تنظيم الدولة» وحتى ما كان رسميا ضمن الموضة القديمة تنظيم «القاعدة» وجد لنفسه مسميات اخرى ليدخل صراع الموضة السياسية، كما هو الحال مع جبهة النصرة السورية، المعروفة بأنها فرع من تنظيم «القاعدة» فلم تعد تذكر ذلك في الاخبار المتعلقة بها، وكأنها حركة جديدة تنافس تنظيم الدولة على صيحة من صيحات الموضة السياسية التي ستظل إمبراطوريات الميديا تسوقها لنا وسنظل نستهلكلها من دون وعي.