تأملات على هامش الشرق الأوسط «النظيف»

سبت, 2015-02-28 15:41
عبير ياسين

في كلمته أثناء انعقاد الدورة الأولى لملتقى الحوار لمؤسسة ياسر عرفات المنعقد مساء 25 فبراير 2015 في القاهرة، تحدث الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية عمرو موسى عن تغيرات المنطقة، التي لم تعد كما كانت منذ خمس سنوات، متوقعا أنه في «ظرف خمس سنوات مقبلة سيشكل شرق أوسط جديد بالمعنى النظيف وليس بمعنى الفوضى الخلاقة. 
ورغم تعدد النقاط التي يمكن طرحها على هامش ما نقل عنه في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية وسبل تسويتها، وما تحقق خلال توليه لمنصبه في الجامعة العربية، أو حقيقة الآثار السلبية للربيع العربى على الواقع الفلسطيني في مواجهة الكثير من التطــــورات الأخرى، فإن تعبير الشرق الأوسط  «النظيف»  ســـيطر على مساحــة الاهتمام، خاصة أنه طرحه بوصفه بديلا للمفهوم الأمريكي الخاص بالفوضى الخلاقة. حمل الحديث بتلك الصورة تقييما سلبيا للربيع العربي بالربط بينه وبين الدعاوى الأمريكية للإصلاح، متجاوزا عن واقع الدول العربية وحاجتها للإصلاح، وأن الحراك كان شعبيا بغض النظر عن التطورات التالية.
ولكن ما هو المقصود بمعنى «النظيف» وشكل الشرق الأوسط المراد الوصول إليه في ظل الواقع المعاش. بداية هناك تشابه في الكلمة مع حكومة أحمد نظيف التي تولت المسؤولية في نهاية فترة حكم الرئيس مبارك في مصر، وسط خطاب متصاعد عن الليبرالية والإصلاح الاقتصادي الذي ساعد في «تنظيف» جيوب الكثير من المواطنين وزيادة معاناتهم، في الوقت الذي لم يتم تحقيق إصلاح حقيقي ومستدام. وضع عبرت عنه الفجوة الاجتماعية المتزايدة خلال مرحلة ما قبل ثورة يناير 2011، وظهرت بصور مختلفة في تقارير الفساد التي طرحت بعد الثورة، بما فيها تلك التي لم تتم إدانة أحد فيها بعد. لا أعتقد أن المواطن في حاجة إلى تلك الصورة من الشرق الأوسط «النظيف» الذي تغيب فيه المحاسبة ويزداد فيه الفساد من أعلى والمعاناة من أسفل. 
في الوقت نفسه فإن المفهوم جاء وسط جدل متزايد عن «داعش» المسماة بـ»تنظيم الدولة الإسلامية» التي ترى في وجودها تنظيفا آخر للمنطقة، مما تراه مظاهر بعيدة عن الإسلام مثل، الآثار بوصفها أصناما، والبشر بوصفهم خارجين عن صحيح الدين أو الدين.. يبدو عالم داعش بمثابة شرق أوسط «نظيف» من المنطق والانسانية، حيث العنف والقتل والهدم وسائل أساسية والتنميط أهداف نهائية. شرق أوسط آخر «نظيف» وفقا لأطرافه وبعيدا عما يحتاجه البشر أنفسهم في الواقع أو المستقبل.
وبالعودة للواقع المصري، وبعيدا عن واقع ما قبل يناير، نجد في الكثير من مشاهد الداخل صورا لواقع «نظيف» من الكثير من الإيجابيات، طارحا لصور مشوهة فيها الكثير من السلبيات التي تثير التساؤل عن الرغبة في استمرارها للمستقبل. في البداية لدينا مشهد تعذيب وقتل الكلب «ماكس» في شارع الأهرام بمنطقة شبرا الخيمة بالقليوبية في ما يعرف على وسائل التواصل الاجتماعي باسم «كلب شارع الهرم». الحدث بتفاصيله يطرح جزءا كبيرا من مشاكل الواقع المصري، بداية من خلاف في المنطقة يتطور إلى قيام الشخص بترك كلبه على المارة كما تتداول الأخبار، بما يؤدي إلى عدة أصابات وتحرير محضر ضد صاحب الكلب. ولكن قبل انتظار حكم القانون تحرك الشارع في ما قيل جلسة عرفية توصلت إلى الحكم بقتل الكلب بموافقة صاحبه، حتى يتم التجاوز عن المحضر. ومع التراجع والاعتراض يتم اصطحاب الكلب إلى الشارع حيث يبدأ الهجوم عليه بسكين حتى قتله.
 تحمل المشاهد التي جاءت في الفيديو صورا للعنف الممارس في تلك الحالة في مواجهة الحيوان، ولكن ليست تلك هي المشكلة فقط، لأن اختيار الطريقة وترك الكلب في عملية كر وفر ليواجه قاتله، يعبر عن الرغبة في رسم ملامح بطولة ما لمن يقتله، وسط ترحيب الجمهور المتابع، فلكل عنف جمهوره على ما يبدو. وهو ما يثير تساؤلات مهمة عن العنف وتوقيته وهدفه وتبريره. مع ضرورة عدم إهمال فكرة التسجيلات التي أصبحت تتم بشكل يرتبط برغبة الفاعل أو المشارك أو المتابع في الاحتفاء بالحدث، عبر نشره ليتحول بعد هذا إلى دليل إدانة ضد الفاعل ووسيلة لإثارة المشاعر، كما في حالة  «ماكس». ولاستكمال حلقات المشهد أكد المتهم على اتصالهم بدار الافتاء للسؤال عن قتل الكلب، وأن الدار أفتت بجواز القتل، بدون ان تحدد الوسيلة. وبهذا، نجد أنفسنا في مواجهة صورة محتملة لواقع شرق أوسط «نظيف» من الرحمة، يتم فيه إعلاء فكرة الثأر والانتقام، وتغليف الفعل بحكم الدين مع البحث عن وسيلة لتجنب العقوبة. أن يتم فعل الجريمة مع النجاة من عقوبتها وكأنها الجريمة «النظيفة».
تساؤلات تتقاطع مع حديث الرئيس السيسي في كلمته التي وجهها في 22 فبراير للشعب المصري حول العديد من النقاط، محورها الهجوم على ليبيا للثأر من عملية الإعدام الجماعي لعدد من المصريين على يد أعضاء من تنظيم «داعش»، قبل أن يؤكد على التحديات التي تواجهه بعد ان كلفه الشعب بتولي المسؤولية، في تذكير مستمر بتلك الحقيقة المتشابكة مع التفويض. والحديث عن الانجازات التي تحققت، خاصة القبول الدولي المتزايد بالواقع السياسي في مصر بعد 30 يونيو. ولكنه في السياق نفسه أكد على ضرورة المحاسبة من خلال الاحتكام للقضاء، مشيرا إلى حديث خاص بينه وبين النائب العام شمل السؤال عن قضايا مثل، مقتل عضو التحالف الشعبي الاشتراكي شيماء الصباغ، وإجابة النائب العام له بأنه -أي الرئيس- «لن يكون معه عندما يحاسب»، ورغم كل الحديث الدائر في مصر عن ضرورة عدم الخلط بين الدين والدولة ومخاطره، والحاجة للتغيير بسبب ما أحدثه حكم الإخوان، اعتبر الرئيس أن تلك الإجابة كافية لأن يشاركه الشعب إحساسه بالاطمئنان في ما يخص العدالة في مصر.
تلك العدالة نفسها «نظيفة» الملامح التي تحكم الشرق الأوسط تمر علينا بصور كثيرة، منذ ثورة يناير ونحن نتابع حلقات البراءة للجميع، التي شملت أسرة مبارك ورموز حكمه، بمن فيهم وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي، وعضو لجنة السياسات في الحزب الوطني أحمد عز، الذي اهتمت وسائل الإعلام بإذاعة أول حديث معه بعد براءته، ليطرح التساؤلات على طريقة البرامج الإذاعية عمن الجاني ومن الفاسد في المحروسة، وعن الشرق الأوسط  «النظيف» الذي يتحدث عنه عمرو موسى. وعلى أرض الواقع لم يحتج الأمر للكثير من الوقت لنواجه بقضية وفاة المحامي كريم حمدي في قسم شرطة المطرية، بعد أن تعرض لضرب مبرح وكسر أكثر من 10 أضلاع، وإصابات في الجسد وتجمع دموي، وفقا لما نقل عن تقرير الطب الشرعي. الحدث الذي أثار نقابة المحامين وجد فيه البعض فرصة لسؤال أكبر عن المقارنة بين التعامل معه والتعامل مع قصة الكلب  «ماكس» على وسائل التواصل الاجتماعي، في حين يقدم فرصة لاختبار فكرة الأضواء والإنسانية والاطمئنان للعدالة نفسها.
في التعامل مع خبر قتل «ماكس» أشار البعض إلى ضعف العقوبة الممكن فرضها على من قتل الكلب، التي قد تصل إلى الحبس لمدة 6 أشهر أو غرامة مئتي جنيه مصريا، واعتبرت العقوبة - بالنسبة لهم- غير كافية، لأن من قام بقتل كلب بتلك الطريقة يمكن أن يمارس عنفا مماثلا ضد البشر. والغريب في تلك المقاربة، وبدون التقليل من قيمة الحياة ورفض التعذيب في عمومه، أننا على أرض الواقع نتابع وقائع قتل وتعذيب ضد البشر لا يحاسب عليها أحد ولا تمر عبر بوابة تعذيب حيوان مرحليا، ولكن تبدأ من الدرجة الأعلى وهي تعذيب وقتل الإنسان بدون محاسبة، وكأنه عالم «نظيف» من الضمير والمساواة أمام القانون أو «نظيف» من القانون كما يفترض به أن يكون.
في فيلم «الأفيال تستطيع أن تتذكر» المأخوذ عن قصة بالاسم نفسه للكاتبة أجاثا كريستي، يؤكد بطلها المحقق البلجيكي هيركيول بوارو، في سعادة أن «الأفيال يمكن أن تتذكر، ولكن البشر يمكن أن ينسوا». المقولة التي عبرت عن أهمية وإيجابية نسيان التجارب المؤلمة للأفراد تختلف عند التعامل مع الدول وتاريخها، لأن بناء مستقبل أفضل لا يحتاج إلى كلمات براقة، ولكن إلى ذاكرة لا تنسى وإرادة تملك المحاسبة حتى لا يستمر الشرق الأوسط بمعناه «النظيف» الذي نعرفه.