(قراءة لا علميّة، لاتلزمُ أحداً غير صاحبها الضعيف)!
يبدو أهلُ هذه الأرضِ يكرهون العزلة، حسبَ مايشي بهم طبعهم المرِح في جنونه الهوسيّ بالحياة. لذا، كانت العُزلة غالباً لديهم ضرباً من ضروبِ الموت، على نحوٍ ما. سواءٌ في هدوئها، صمتها؛ إنّ ذلك كله سيّان، فهو علاماتٌ واضحة على الموت.
إنهم مُحبّون للجماعة، التلاقي. تداول الحديث حولَ الطارئ المُستجدّ، خاصة إذا ماتعلّق الأمرُ باحتماعٍ على طاولة للشاي المُسمى شعبياً " أتايْ" !
لذلك فهم غير مُستعدّونَ للتضحيّة بوقتهم، سعياً من أجلِ العزلة، فذلك يُعدُّ عندهم نوعاً من العبثِ الأكبر الذي لايركنُ إليه غير المختلِّ عقلياً..أيّاً كان ساعتها مُبرره؟ دافعه المرجعي؟ غايته المُبتغاة؟
غير أنّ ذلك لايعني أنّهم بكليتهم لايُمارسونها، أو يلجأون إليها، فهناك حالاتٌ أتسمت حياةٌ أهلها بالعزلة، خاصة في أشدّها المٌتطرف، ولعلّ من أهلِ تلك الحالات: بعضُ الساسة الناردي، والمجاذيب: المقطوعبن من أوقاتهم. والذين تنقل لنا الذاكرة الشعبيّة بعضاً من أخبارهم، على مراتب متفاوتة تطعبها مسحة أسطورية. من ذلك أن بعضاً منهم عاش في البراري دهراً مذهولاً بالعالم المُدهش حوله، فمدّه الله إثرَ ذلك بقوى خارقة، جعلتْ الحيوانات المُفترسة تأتنِس به. ويأتنِسْ بها، بعد أن روّضها. وسخرَها بدوره لخدمته، هذا، ليظهر لنا بعد ذلك مُمتطيا الأسدَ!
ومنها أيضاً أنّ بعضهم كان ينقطعُ عن العالم الخارجي، إلى نفسه، فيمضي بذلك أسابيعاً، وقيلَ شهوراً، لايُكلّم فيها مخلوقاً. يتجوّل، أو يتأمل. يمتلأ بنفسه، ثم يُفرغ منها، هكذا مادام صاحبَ نفسه في خلوته؛ وعادةً لايصطحبُ أمثالُ هؤلاء معهم في عزلتهم الانقطاعيّة غيرَ: عصًى، وإناء ماءٍ صغير. مدفوعين في ذلك بعاملِ التوّكل الغيبي، والنّزوع إلى التحرّر من الأشياء الفانية قدر المُستطاع.
وبما أنّ الإهتمام هُنا ينصبُ في البداية، وقبل كُل شيء على نموذجان مُثقفيان اعتزاليّان (هُنا: ينبغي نسيان المفهوم التاريخي/ الواصلي الفكري/ الايدلوجي) فلاينبغي التمادي في الكلامُ خارجَ دائرتهم.
وهنا، يجبُ القول عن هذان النموذجان بأنهما الوحيدان، باتفاقٍ شُبه مُكتمل، في حقلِ الثقافة الموريتاني. اللّذان ماراسا العُزلة، وطبعتْ حياتهما، بدرجاتٍ مُختلفة. مُتبانية، قليلاً، وكثيراً، فيما يخصُّ حالتيها: مُمارستهما لها.
هذان النموذجان هُما: العلامّة المؤرخ الفيلسوف: محمد مولود ولد داداه (المعروف بالشنافي)، والقيادي البعثي الكبير أ: محمد يحظيه ولد أبريد الليل.هذا وإن كانَ هُناك بعضُ الاختلاف المُتباين في توجهما.
فالأول يغلبُ عليه العمل الذهني، الفكري، الثقافي، على عكسِ الأخير الذي عُرف بنضاله السياسي الميداني الشديد المُباشرة فيما يخصُّ العلاقة من الجماهير. إلا أنّ هذا لايمنع من القول في أنّ شخصيّة كُلاً منهما تشتمل على مُثقفٍ قويّ، مع الإختلاف في ذلك أيضاً، بتفاوته، وفي تحديد المُثقف كذلك، والذي في ظهوره هُنا لايلتزم بمظهرٍ واحدٍ حصريّ، مُحدّد مُسبقاً.
2-
- الشنافي: العزلة كتخفيف من القلق المعرفي.
في قرية عين السلامة الرّاقدة في حضن الأبدية، أنزوى شيخنا الشنّافي عن العالم، بعد أن لخصّه في مشكلةٍ ذهنيّة. تبدو مُعلبّة في عقله القلِق معرفياً، وهي تأخذُ حيّزها الخاص بجانبِ مشاكل أخرى عديدة، تعدلها في القيمة. حينَ يُصارع عقله المُشاكس إلى العدل بينها، في تقسيم إهتمامه بها.
الشنافي كان يعيشُ ليعتزل لايتعزل ليعيش. ففي العزلة سرّه الضائع، والمُندفع خلفه جرياً منذُ أحسنَ التمييز.
فهي ليستْ هويته فحسبْ، إنها مصيره المنشود. والذي علمَه ذاتَ لحظة تأزم داخليّ، خرجَ فيها من نفسه، ليُشاهدها عن قريبٍ من الخارج (كهوَّ /آخر وأنا/ه/) في ازواجيّة ثنائيّة عجيبة، تتمثل بالمرآة، والنّاظر الساعي لمعرفةِ ذاته، كأنه نرجس ينظرُ بذهول صورته في صفحة الماء الصافيّة. لكن، هُنا ليسَ بدافع الإعجاب الغروريّ المرضيّ، إنما بدافع المعرفة. كحلّ وجودي.. بديل أخير مُنتظر!
الشنافي، بعد أن مارسَ الترحال في بُعده الأخطر، قرّر الاعتزال. الاستراحة الموهومة. مع عقلٍ جامح كعقله لايُمكن القدرة عليه، في حطّه وراء الأسوار، وتدوير الحِبال اللاّمرئية عليه. خاصة وأنّ عقله كان في ميدانِ معركة الحاضر يُصارع، كما هو في المقامِ نفسه، في الماضي الغائب، البعيد. يُصارع ذاته، الآخرون، من أجلِ ليلاه الأولى والأخيرة : الحقيقة. هذا بوصفه مُؤرّخاً فيلسوفاً!
إنّها ليستْ عزلة مكانيّة بحتة، بقدرِ ماهي ذهنيّة ووجدانيّة. دفعته نفسه إليها رغماً عنه، أيْ في خضم الغربة الذاتية. لقد عاش العُزلة مع ذاته، عقله، كُتبه. بعضُ تلاميذ، الأحبّة. زوجتُه الوفيّة العظيمة.
وهو إن كان تمركز مكانيا بعين السلامة. غالب الوقتِ، وقته. إلا أنّه بقيّ خفيف العزلة على المستوى المكاني مُقارنة بالذهني، على عكسِ المعري، الذي كما تقول محققته عائشة عبد الرحمن أمضى 40 سنة لايبرحُ فيها منزله. منشغلٌ بذاته مكتفياً بها. وهو لايختلفُ كثيراً، فعزلته الذهنيّة شبيهة بعزلة المعري، وهذا ماجعله مُتغذباً بقلقه المعرفي، وشقاء وعيه الخاص. ليتأثر بذلك شخصياً، وفكرياً.
فقلقه المعرفيّ جعل عُزلته الحياتية اللاّمثمرة، هذا قبلَ أن يُكمّلها بعزلةٍ أبديّة عاش علاقةً حميميّة معها، قبل أن يحلَّ ضيفاً عليها.
فهو لم ينتهزها. وفراغها البعيد في تأليف الكتب، وتدوين المعارف. هذا إذْ أنّ جنونه المعرفي أدّى به إلى ذلك، فلم يترك لنا ولا مُؤَلفاً واحداً. نشقى به معه، ويكشف لنا بعض أجزاء ذاته الغامضة، ومعارفه الواسعة.
- ابريد الليل: عزلة بنكهة طعم لبنِ الإبل ورائحته.
على العكسِ من عزلة الشنافي، تظهر لنا عزلة ولد ابريد الليل ذات دافع مختلف، فالرجلُ الذي طالما خاض معامع الحياة، والنضال الميداني. وكان قليل الانصراف الذهني إلى المشاكل المعرفيّة الكبرى كاهتمامٍ أوّل له، كما هو الحالُ مع سلفه العظيم ولد داداه المعروف بـ: (الشنافي). لايظهر بنفسِ المظهر في عزلته التي عُرف بها في حياته الأخيرة. فولد أبريد اللّيل لم يستقرّ على مكانٍ واحدٍ مُعيّنٍ في عزلته، كما أنها كانت تحصلُ دائماً في زمنِ إشتداد الأزمات السياسية- الوطنيّة، لتُشكل له مخرجاً، ومنفذاً مُختلفاً، يُتيح وقتاً للتفكّر، والتأمل حول تغيّر المصائر المُرتقب، أو تحوّله الفجائي العكسي، ذلك الذي كثيراً ماكان شديد الوطأة.
إنها عزلة مُختلفة، كما هي العُزلة غالباً، لدى القادة، تهتدف بهدفٍ برغماتي بحت. هذا إن وُجدت أصلاً عزلة لاتهتدف بمثلِ ذلك الهدف؟
غير أن عزلة ولد أبريد ماكانت دائماً تسيرُ على نفس الوتيرة، هذا، كونها لاتحدثُ سوى في زمنِ إشتداد الأزمات على المستوى الوطني خصوصاً، والقومي عموماً، فمع تقدّم عمر الرجل تلوّنت ببعدٍ آخر مُختلف، فأصبحت أسلوب رفاهيّ-صحيّ يميلُ إليه لغرضِ النقاهة والإستجمام كما هو الأمرُ غالباً، لدى البعض من أهلِ خاصة اليوم. وهذا مايظهر من إستهدافه منطقة الساحل غالباً، خاصة بوادي إينشيري وتيشيت، حيثُ الهدوء، والإبل ولبنها العذب....إلخ
على العكسِ، مرةً أخرى من عُزلة الشنافي، ذات المسحة الذهنيّة الروحانية الهادِف صاحبها إلى خلاصٍ ينقذه، كالذي حصل مع الغزال بشكه. وهي الميزة الأساس بين العُزلتين، فولد ابريل الليل يفتقدُ تلك المسحة الذهنيّة الوجودية في عُزلته ليكتملَ معناها، كما أنَ الشنافي يحتاجُ تحرّراً قليلاً، يُجنّبه عبوديتها.
إنّ ولد أبريل اللّيل يعتزل ليعيش، لايعيش ليعتزل. فلو أنّه كان يستطيعُ الحياةَ بدونِ عزلة، من زمنٍ لآخرَ. لكانَ ما أحتاجُ إلى العزلة. لكن، احتياجه إليها يبقى وقتياً دائماً على النقيض من حالة ولد داداه، الذي يعيش ليعتزل، يتذوّت، ينعتق. إنهّ بالعزلة يُوجد، وينوَجِدْ. كما أنّ ولد أبريل الليل بها يسترجع بعض نُوره الذي ذهبَ، سبباً لوجوده، معناه الضائع فجأة في تراكمات الأحداث العابرة الشديدة الضغط!
نقلا عن مدونة الكاتب