حراس الصّمت

أربعاء, 2015-03-04 17:24
أبو العباس إبرهام

آتت التربية السيئة للديماغوجية أُكلها. ومنذ فترة وُلد جيل لاحظ له من التعليم والتّدبر، ولكنّه سريعٌ إلى حلِّ المعضلات الفكرية بالآليات الشوارعية. ومع انهيارالغايات والشرعيات العقلية للمجتمع القديم بفعل تحولاته ومجابهته لإشكاليات لم ينتظم لها آباؤه الأولون وُلدت برجوازية صغيرة لا تُحسن من الدِّفاعِ عن قيّمها إلا التصميت والتخوين والسّباب. وفي أحيان كثيرة اكترت (وإن رمزياً) حطيئويين لحذف إنسانية من يتجرأ على مقدساتِها. ووُلِدت أقلام مستعارة تُدافع عن الأخلاق بعدم الأخلاق. وصفّقَ لها "الأخلاقيون".

لم يعد يمكن نقد المختار ولد داداه، وهو رئيس حكم فترة مليئة بالصراعات والاستقطابات، بشيء غير التمجيد وإلاّ حلّ حُرّاس الصّمت على رأسِ من ينتقده. وما إن يكتب أحد، وإن من منظور مستهلك ومبتذل حتى، إعادة فهم للعصور الإسلامية الأولى أو لقوانينها حتى يتأبطه مبتدئون في التّفكير والتعلُّم. ولم يعد يمكن لشاب أو اثنين تغيير اصطفافِهم السياسي بدون أن تجلس لهم محكمة تفتيش أفرادُها عميان من كبر القشة في أعينِهم.

إن ما سميناه سابقاً باليمين البيضاني (ولكنه ليس حركة عرقية بقدر ما هو تقديس أيديولوجيا المجتمع البيضاني: أي أنّه محافظة عابرة للأعراق وللتاريخ) هو حركة تريد حلّ الأفكار ليس بالأفكار بل بالتنديد والتكميم وتريد وضع سياج حول قضايا معينة وإغلاقِ نقاشِها البتة (قضايا التراتبية والسند الفكري للمجتمع القديم والعهد التأسيسي للدولة والسند السياسي لمُدعِّي القداسة). وهكذا تغدو استيراتيحية الهروب من النِّقاشات جزءً من تأكيد هوية: عن طريق منع الخوض فيها.

يتعلّقُ جزءٌ من الدفاع عن الداداهية التاريخية بنضالات عالِمة تقودها الموالاة التاريخية، وبعضها يتعلّقُ باحترابات جهوية تكاد تكون فلكلورية. ولكن ما نشهده اليوم من تجريم نقد ولد داداه ليس حتى هذا. إنّه الجهل المقدّس للمراهقين الذين، ليس فقط أنهم لا يعرِفون شيئاً عن العصر الداداهي، بل لا يريدون أن يعرفون عنه أي شيء. يهربون، واضعين الوقر في آذانهم. إنّهم، كأي حركة وطنوية، هم حركة ختم التاريخ وإغلاق أساطيره المؤَسِّسة (أو تأسيس هذه الأساطير على الأصح). بهذا المعنى هم ليسوا موالاة تاريخية (فهذا يستلزم طيفية تاريخية هم لا يعترفون بها، ويحتاجون للعلم لمعرفتِها)، بل هم حركة مُتحفيّة لامَساسيّة. وبمعنى من المعاني فهم ضحايا، لا نفوس مسيطرة على ذواتها. إنّهم ليسوا حراس الصّمت، بل هم نتيجَته.

نقلا عن صفحة الكاتب على الفيس بوك