هنا أنواكشوط، مدينة العذابات الوجوديّة، ومركز المسوخ الشمولي، والعهر الأخلاقي المُتصاعد على نحوٍ فظيع، هنا اللاّ هنا. حيثُ كلّ شيء يُشعرك أنّ الحياة مشوّهة، ورديئة، حدّ الملل المودي للإنتحار .
هنا أنواكشوط، التفاحة الفاسدة، المكان اللاّمتحقق، الأفضلية المستحيلة، الدّنس الأبدي، الشهقة الأخيرة، حظّ الإختيار الأول اللاّموفق في لحظته التاريخية القلِقة، هنا النّوق الشاردْ أبداً . يا رُسل النّور هذه معاناة سجين معذّب يتوق للإنفراج ولو من ثقب إبرة، فهَلا مارستم معه التأوه الحزين ..؟
هنا، على هذه الأرض المُنهكة بويلات الزّمان الرديء، تنقلبُ الموازين، ويُكفر بقيم الجمال والحريّة والعدل كُفراً بواحاً، حتى أصبح الكفر بها ديناً قويما مُوجَب الإتباع، مُطلق الصوابية، يكثر أتباعه وينتشرون أمواجاً .
هنا، يالعنف المُفارقة الشديد، يتصالح الله والشيطان لأول مرّة على غير العادة، فهذه أرضٌ منتزعة من أصحابها المغوبونين وسط النّهار، على مرأىً من الجميع، من طرف شيوخ الظلام، المعبودون مُجتمعياً، رغم ممُارساتهم الكارثية، وتشويهيهم الدّائم للّه الأعلى.
هنا، تُخان القضيّة الشعبية، ويُباع القلم وتُسرق بذور الثورة في طريق تكوّنها، هنا، المثقف متلونٌ حربائي، يحملُ أعباء الذّل الثقيلة، فاقدٌ للكرامة، متمصلح إنتهازي، بقدر مدحه للحاكم الرّجعي، ومكوثه في بلاطه الفاسد.
بعيداً في كلّ ذلك عن هموم الشعب المنتمي إليه، والتي لا يبالي إزاءها إلا من باب المُتاجرة وأكل الدنيا بها بعد كثيرٍ من التمظهر الزائف بالإلتزام ..!
هنا، القبيلة تُصارع الدولة، بل وتُنافسها أحياناً كثيرة، فهي هنا غير مُستعدّة للتخلي عن وجودها التقليدي، بل إنّها ويا للعجب تسعى لتنميته بإضفاء قدرٍ من الحداثة عليه، من ذلك توغلها كظاهرة رجعيّة في كلّ ميادين النّشاط الأكثر حساسية وقوّة على أرض الواقع عن طريق بعض الولائيين المنتمين إليها.
هنا، على قارعة الطريق ينتشر باعة الوهم المقدّس، مروّجي حرفة الدّجلنة اللّصيقة بالحمرنة عند فاقدي المعنى الخفي اللّطيف، سعياً إلى سرقة عقول العامّة، المسلوبة بتغليفها تغليفاً لا يُلاصقٌ العالم والنّور من جهة.
هنا، الطبقيّة بألوانها المُفزعة، تظهر في أبهى تجليّاتها، الأكثر خطورة. وكأن وجود نسخة ملّح والكبه ولمغيطي وغيرها كثير على هامش المجتمع التفرغ-زيني، أمرٌ محتم علينا مدى الأبد تفهمه بل وقبوله برضا كبير، رجوعاً لوهميّة التفاوت الفطري بين بني البشر في أقطار المعمورة التي يروّج لها عديمي الحسّ الإنساني، مثلها في ذلك النّحو من التبرير العاجز الأحذيّة العسكرية الثقيلة التي تجثو على صدرنا الجمعيّ بشدّة منذ عقود، وغيرها من الويلات كثير ..!
هنا، ويا لهذا الهُنا، المتماهي في العدم، المُشرف على السقوط في الهاويّة، يقفُ الألم الموجوع بدوره مرفوع الرأس مدافعاً عن هويته النواكشطيّة بقوله "ماكان لي إلا أن أكون أنواكطشياً، أو لا أكون" فهلا أتقيم مسكني الأبدي أيّها الحمقى.