
اليوم تتقدَّمُ تونسُ - بانْتخاباتها المُزْمَعَةِ- إلى عبور مُنْعرج حاسم، في مَسار ثوْرتها التي سَجَّلتْ ريادتَها، وحَقَّقَتْ اسْتِثْناءها العجيب، ضِمْنَ مسار الإحباطات، التي واكبتْ أخواتِها من ثورات " الربيع العربي" المُحْتَرِق، بفضْل تمَيُّزِ رئيسها: السيد المناضل محمد المنصف المرزوقي، في إدارة الزعَازِعِ، وترْويضِ الزلازل، وتكْميم فوهاتِ البراكين، إضافةً لتألقِ نُجُوميته السياسية الساطعة، في القِمَم العربية، والدولية، وسَرِقتِه للأضواء بفصاحة خطابه، وأصالة أفكاره، وحصافة أطاريحه، وتناغُمِه الرائع مع حكيم "النهضة": المفكر الرشيد: راشد الغنوشي، الذي نأى بنفسه، وبإرْثه النضالي، عن التهافُت على السلطة، ولم ينْحرفْ بحِرَكتِه إلى جشَعِ الاسْتِحْواذ على مَفاصل السلطة كلها دفعةً واحدةً، بل إنَّ هذيْن القائديْن أسْتقطبا خِيرَةَ النُّخْبَة السياسية الثقافية الفكرية، للشراكة المُتكافئة في ترْشيد ثوْرِة البلد، التي هي أهم ثرَواتِه، وأحْوَجُها إلى الترْشيد، مُتجاوِزينَ-في سبيل ذلك- تناقضاتِ أسْلَمَةِ السياسة، وليبراليتها، ويساريتها معا، ليثبتا أنهما- فعْلا- "مُنْصِفٌ"، و"رَاشِدٌ"، وأنَّ تونس، "تُؤْنِس" فلبَ تاريخ "إفريقيا"، المُوحش، ورُوحَ العروبة الجريحة، من الحيط إلى الخليج، وأمَامَ هذه التداعيات المُتَزَاحِمَة؛ في ذهني، عنَّ لي أنْ أرْسِلَ بعْض المُلاحظاتِ، التي تؤطر تمَيُّزَ هذا " المنصف"، وذلك "الراشد"، و" تُونِسهما":
1- الافرنكفونية/العروبية:
لقد سَجَّل التاريخُ لتونس- من بين الدول الخارجة من تحت قبعة الاستعمار الفرنسي- أنَّ أكبَرَ دُعَاةِ التعْريب فيها، وواضِعي خططِه وبَرامِجه، والساهرين على تطبيقه، هم أفضل خريجي الجامعات الفرنسية أنفسهم، أمثال محمود المسعدي، ومحمد مزالي....ومن هنا كانت الازدواجية اللغوية والثقافية-هناك-حقيقية ومتوازنة، تتقن الحديث باللسانين، والكتابة باليدين، دون أن تفرط في ثوابت هويتها العربية، خلافا للازدواج اللغوي الهجين، المُزَيَّفِ السائدِ في أغلب بلداننا العربية، ومن هنا –بعد تبيان السبب- يبطل العجب من فصاحة المرزوقي المشهودة، وتناغم حداثته مع أصالة تُونس، وثوابت هويتها العميقة.
2- الفقيرة/الغنية:
ولعل ذلك الاستثناء التونسي- في فلسفة التعليم المزدوج- هو ما ترتب عنه استثناء آخر، جعل هذا البلد الفقير الصغير، غنيا وكبيرا، في سُلَّمِ التنمية البشرية، نتيجة لتقدمه العلمي، حتى تحت ظل الدكتاتورية العتيدة.
3- الهامش/المركز:
مَنْ كانَ يتوقَّعُ أنْ تنْكسِرَ أسْطْورةُ المَرْكز المشرقي، لتَنْدَلعَ شُعْلة التحَرُّرِ من تُخوم المَغْرب الكبير؟ جَاعِلةً من تونسَ الخَضْراء " فاَتِحةً" الثوراتِ، وأمَّ كتابها المقدس، وسَارِقةُ نارها من براثين آلهة الأساطير، وباعثةً رُوحَ شاعرها أبي القاسم" المُتنبي".
4- الشاعرة/ الثائرة:
كثيرون هُمُ الشعراء العرب الذين تغَنَّوْا بالثورة، ونفخوا روح الحرية في ناي الوجود بأوطانهم، منذ فجر النهضة، وانبثاق حركات التحرر، ولكن فيضان الكلمات، وطوفان القوافي لم يكتب لهما من"سحر البيان"، وفاعلية التأثير والتثوير في ننفوس الجماهير، ماكتب لبيتين حول"إرادة الحياة" لشاعر تونس الثائر الصغير المريض، الخالد رغم موته المبكر:
إذا الشعْبُ يوما أرادَ الحياةَ فلا بُدَّ أنْ يَسْتجـيبَ القدرْ
ولابُـدَّ لليل أنْ يَنْجَـــــــــلي ولابُـدَّ للقيْدِ أنْ يَنْـكسِرْ
حتى أنَّ هناك من يَزْعمُ أنَّ اليابان الناهضة من دخان ورماد القنبلة النووية، قد أدرجتْ مَعْنى هذين البيتيْن،في نشيدها الوطني، استلهاما وانسجاما مع رُوحهما الحماسي.
ومهما يكُنْ فإنَّ التهابَ هذه الأنشودة على شِفاه الجماهير- عبْرَ كلِّ التظاهرات الثوْرية، في دول المغرب الكبير وغيرها-من دول المشرق العربي- لَخَيْرُ تعْبيرٍ عن مدى فاعليتها الثورية الاستثنائية، التي جعلتْ من صاحبها أيقونة الثورات في كل ميادينها.
5-العربة/ الدبابة:
إذا كان العالم العربي ،قدْ مَرَدَ -عقودا طويلة- على أنَّ تغْييرَ الأحْكام السياسية، في حُكْمِ المَيْئوس منه، ما لمْ تتحرَّك الدباباتُ، تحت جُنْح الظلام، إلى القصر الرئاسي، فإنَّ الحكمَ الديكتاتوري العاتي في تونس، قدْ أسْقطتْه عرَبَةُ خُضار. وقد سجل الجيشُ التونسي استثناءً ثانيا، في هذا السياق-من خلال تفرده- بأنه الوحيد بين الجيوش العربية، الذي لم يخض حروبا مع جيرانه، حيث لم يسْتهْوه الانغماسُ في مُسْتنقع السياسة، وظل محافظا على عقيدته العسكرية، القائمة على حماية الأرض والشعب، خلافا لنُظرائه من الجيوش العربية، التي فَرَّتْ من الخنادق إلى الفنادق، وولَّتْ ظهْرَها للجِلاد القاسي، لتتصارَعَ على نَعيم الكراسي، فبرْهنَ لِعَقيده: زيْن العابدين بن علي، أنَّ سَرِقَتَه لحُكم تونس من وَلِيِّ نِعْمَتِه الرئيس:الحبيب بورقيبة، المُحْتَضَر حِينَها ، كانت مُجَرَّدَ شُذوذ، يصحِّحُ قاعدة هذا الجيش الحامي لثورة الشعب.
6- نارالسياسة/سياسة النار:
إذا كنا قد تعوَّدْنا -في عالمنا العربي- على نار السياسة التي تحْرق الأخْضرَ واليابس، من ثَرَوَاتِ وخَيْراتِ الشعوب المَقْهُورة، فإنَّ تونس قد أحْرَقَتْ نارَ السياسة هذه، بسياسة النار.
ومهما كان اختلافي-عقديا وفلسفيا- مع ما أصبح يسمى بالظاهرة البوعزيزية، نظرا لأني أرى النضال بالحياة –فضْلا عن البعد الشرعي- أجْدَى من النضال بالموت، إذ الأولُ نضالٌ مستمر ومتجدد، والثاني منتهٍ ومنقطعٌ؛ فإنني رغم هذا التحفظ، أجِدُ تلك الظاهرة قد شكَّلتْ نقلة نوعية في مواجهة سياسة النار، بنار السياسة، حيث اقتدحتْ شُعْلتُها التي أحْرقتْ جسْمَ البوعزيزي شراراتِ العزيمة والإباء في نفوس الشباب العربي، فكانت-بالفعل- هي الصاعِقُ الذي فَجَّرَ برْكانَ الغضب الشعْبي المَكْبوت، وكانتْ دَمْعَةُ أمِّه هي القطْرة التي أفاضتْ طوفانَ الثورة الشعبية الجبَّارة المُنْدفع –يو}مها- من تونس، إلى مصر، إلى ليبيا، إلى اليمن، إلى البحرين، إلى الأردن، إلى الجزائر، إلى المغرب، إلى موريتانيا... فتحوَّلَ البوعزيزي حقيقة إلى سارقِ النار العربي الوريث لسارقها اليوناني، وكانت الشُّعْلة التي أحْرقتْه- فعلا- شعلةُ إبْداعٍ مُباركة، غيَّرتْ- بأعْجوبة- مَسار التاريخ العربي، بين عشية وضحاها، كما لم تفعل شُعَلٌ أخْرى،أحرقتْ أجسادا قبله وبعده.
7- ثورة الاختلاف/الائتلاف:
في الوقت الذي فشلتْ فيه ثوراتُ ما يُسَمَّى بـ "الربيع العربي"، في إسقاط بعض الأنظمة العربية الغاشمة، وفشلتْ حتي في خِلافة بعْضِ الحُكَّامِ الذين نجحت في إسقاطهم، فإنَّ الثورةَ التونسية وحْدها، هي التي وُفِّقَتْ حتى الآن في أن تدبر اخْتلافاتها، وأنْ تحْمي نفسها بنفسها، حيث رفضَ الشعْبُ هنا أنْ يَلْتَّفَّ النظامُ -الذي سقط رأسُه، ونجا ببدَنه- على ثورته، أو تلتفُّ عليها التشكيلات الحزبية والإيديولوجية التي وجدت الحكم – بعدما عجزت عن الوصول إليه – في متناول يديْها، على طبقٍ من ياسمين، تحْمِلُه عَرَبَةُ خُضار، فواصلت هذه الثورة الشعبية التصدي بوعي وإصرار لكل محاولات الاستحواذ مجانا على ثمار نضالها، بحكمة رَبَابِنَتِها.الذين يؤلفُ بينهم- مهما اختلفوا- مِيراثٌ مُشْتَرَكٌ من النضال الطويل ضد حكمهم المستبد.
فهل يُسْتغرَبُ -بعد كل هذه الاستثناءات- أنْ تنجحَ الثوْرَةُ التونسية فيما فشلت فيه أخواتها، وأنْ يكونَ جيْشُها لايَحْمِلُ فيْروس"إيبولا" السلطة، الذي خرب عقائد جيوش العرب، مشرقا ومغربا، وأنْ يكونَ شعْبُها بدَرَجَةٍ من النهْضَة والوعْي تؤهله، لتَجاوُزِ مطبَّات مسار "الربيع العربي"، حتى العبور من عيْن الإعصار إلى شاطئ الديمقراطية، وأنْ يكونَ الرئيس المرزوقي نجم القِمَمِ العربية والدولية الاستثنائي الصادق الجاد، بعدما كسَفَتْ هَبَّاتُ شعُوبنا أغْلبَ نُجُوم القِمَمِ المُرَائِينَ المُهَرِّجين، وأنْ يكونَ إخْوَانُها المُسلمون" أكثر رُشْدا وحِكْمَة، ويَسارِّيتُها وليبرالتُها أقلَّ تطرُّفًا وانْبِتاتا عنْ ثوابت هُويتهم الحضارية العريقة الراسخة؟
قديما قيل:"إذا عرف السبب زال العجب".