المثقف في عصر التعصب

جمعة, 2014-10-17 20:24
السيد ولد اباه

رحل «هاني فحص» .. الشيخ الوقور والعالم الجليل الذي طالما أضفى على اللقاءات الفكرية العربية الوهج والألق .. كان طرازاً فريداً من المثقفين نادراً ما ظهر في حياتنا الثقافية. إنه الفقيه الأصولي المعمم الذي درس في أكبر الحوزات وتتلمذ على جهابذة النجف الأشرف، لكنه اختار صحبة المثقفين والباحثين في الدراسات الإنسانية، لم يكن يبدي رأيه على شكل الفتوى الملزمة أو الحكم النافذ، بل كان حريصاً على احترام الرأي المخالف، لا يتعصب لموقفه ولا يفرضه.

عرفته في الندوات الفكرية وفي اللجان الفنية المتخصصة وفي المنتديات السياسية، وكان رأيه دوماً في كل اللقاءات التي يحضرها مثيراً للانتباه ميالاً للتوافق والتوفيق بعيداً عن التعصب والتشدد. ذكر لي رجل الدين المسيحي اللبناني الذي كان يلازمه مثل ظله في إحدى ندوات عُمان التي شاركنا فيها معاً أن تأثيره في القرى المسيحية بجبل لبنان يفوق تأثير وحضور رجال الكنيسة، وحدثني الراحل نفسه كيف تعود أن يشارك أخوته المسيحيين في أفراحهم وأحزانهم وكيف بادلوه الحب إلى حد إحياء المناسبات الشيعية معه، متحسراً على ما أصاب هذه الأجواء الودية في أيامنا من تغير وتبدل.

لهذه الأسباب أمكن القول إن هاني فحص يمثل حالة فريدة في الحقل الثقافي العربي، الذي عرف نماذج ثلاثة متتالية من المثقفين: أول هذه النماذج: المثقف الإصلاحي الذي ارتبط بما سُمي بعصر النهضة العربية الثانية، وهو مصطلح ملتبس يطلق على جيل الكتاب الذين سعوا لإعادة بعث التراث الحضاري العربي من منظور تحديثي تنويري، وأغلبهم من مسيحيي بلاد الشام الذين غرسوا النبتة القومية العروبية بنفس إنساني منفتح ومتعاطف مع الرافد الإسلامي الذي هو المقوم المحوري في المخزون الحضاري العربي، ومن أبرز رموز هذا الجيل «بطرس البستاني» وناصيف اليازجي.ومع أن السيد هاني تعرف على «الخميني» في منفاه الفرنسي وأقام إلى جواره فترة في قم بعد إعلان «الجمهورية الإسلامية»، كما أنه كان عامل الوصل الرئيسي بين القيادة الإيرانية الجديدة ومنظمة التحرير الفلسطينية، التي كان منتمياً إليها، إلا أنه رفض السياسات الإيرانية في المنطقة من منظور انتمائه العربي الصلب. وقد دفع الراحل غالياً ثمن استقلاله الفكري ومواقفه الوطنية والقومية الرافضة لمنطق الاصطفاف الطائفي، وكان يردد دوماً أن الدين أوسع من الملل والأوطان تتسع للجميع.

ومع أن الإصلاحيين المسلمين طرحوا موضوع إعادة تجديد الفكر الديني واتخذوه محوراً لمشروعهم الفكري التحديثي الطهطاوي والأفغاني وعبده، إلا أنهم كانوا يصدرون عن نفس النموذج، ولو نقلوه من السياق اللغوي والثقافي إلى سردية الإصلاح السياسي والفكري.

ثاني النماذج: المثقف المقاوم الذي ارتبط بحركية التحرر الوطني والنضال العسكري والسياسي ضد الاستعمار الأوروبي، كما ارتبط بالتنظيمات الأيديولوجية التي هيمنت على الساحة العربية منذ أربعينيات القرن الماضي. يتعلق الأمر هنا بنموذج المثقف العضوي كما بلورته أدبيات الالتزام الماركسي والوجودي، أي المنتج الفكري والمبدع الأدبي والفني الذي يعتبر الثقافة ورقة تعبوية في الصراع الاجتماعي والقومي، أبرز هذه النماذج هو ساطع الحصري وميشل عفلق.

ثالث النماذج هو المثقف الاحتجاجي الذي ارتبط في العقود الأخيرة بحركية الدفاع عن حقوق الإنسان والديناميكية التعبوية للمجتمع الأهلي في مرحلة تكلست فيها الحياة السياسية والحزبية، وبرزت فيها مؤشرات عولمة القيم الحقوقية الكونية التي أصبحت من محاور الدبلوماسية الدولية. ظهر هذا النموذج أساساً في الجمهوريات الاستبدادية التي حكمتها الأنظمة الأحادية المغلقة، وارتفع صوته عالياً في حقبة «الربيع العربي»، في الوقت الذي خفت صوت المثقف العضوي بانحسار الأفق الأيديولوجي الذي كان يصدر عنه.

بيد أن نضوب هذا المعين الأيديولوجي واكبه نكوص العديد من المثقفين للهويات الطائفية والعصبية، التي تتعارض مع الوظيفة التاريخية والمجتمعية للمثقف، رأينا كيف انحازت بعض الوجوه الفكرية المعروفة إلى خطاب النعرات الطائفية المقيتة في العراق والبحرين واليمن، وكيف تحول البعض إلى واجهات للصراع القبلي في ليبيا، وكيف انحاز آخرون إلى نظام بشار الأسد بذرائع تقدمية ويسارية تخفي العصبية الطائفية.

كان هاني فحص إذن من القلة التي رفضت نكوص المثقف إلى دور «شاعر القبيلة»، وكان واعياً بالفرق الجوهري بين الهوية المذهبية والطائفية السياسية، التي تعبر عن موازين سياسية وإنْ استندت لمرجعية دينية مموهة تستغل في صراع المصالح والمواقع بتجييش عواطف الناس وإلهاب مشاعرهم البريئة.

يذكر لي كيف كانت الفروق الطائفية في العراق الذي عاش في ستينيات القرن الماضي غير ملموسة، مبيناً أن أغلب مؤسسي حزب «البعث»، وبعض أبرز قياداته كانوا من شيعة جنوب العراق شديدي الاعتزاز بعروبتهم، مستغرباً كيف نجحت المليشيات والتنظيمات التي حكمت العراق بعد سقوط صدام حسين في إشعال الفتنة الأهلية في هذا البلد الذي كان مثالاً للتسامح الاجتماعي والديني، ولذا عاشت فيه الأقليات الدينية الصغيرة منذ أقدم العصور. كان السيد هاني شديد الجزع والحزن لصعود حركة «داعش» المتطرفة، وكان شديد الحنق من جرائم تهجير وتقتيل مسيحيي العراق وإيزيدييه، معتبراً أن من واجب علماء الإسلام بمختلف مذاهبهم وطوائفهم انتشال الدين من المجموعات المتطرفة التي اختطفته وعاثت باسمه فساداً وإجراماً.

كان عالم الاجتماع الفرنسي «ريمون أرون» يقول إن المثقفين صنفان: مستشارون للحكام وأمناء لأسرار القدر (يعني بالصنف الثاني المتنبئين الذين يدعون القدرة على اكتشاف قوانين التاريخ وأسرار الإنسانية). عرفت الساحة العربية الصنفين، لكنها في لحظتها الراهنة أكثر ما تحتاج إليه هو المثقف الذي يمتلك شجاعة الخروج من الهويات المغلقة والاصطفاف الطائفي. وهذا النموذج هو ما جسده فقيهنا الراحل هاني فحص، ولذا كان مصاب موته قاسياً و أليماً.