مصر… الأمن والحرية بين التوازن والغياب

سبت, 2015-03-14 02:08
عبير ياسين

قول المفكر والفيلسوف المصري أحمد لطفي السيد، الملقب بأبو الليبرالية المصرية، «إنني لأعجب من الذي يظن الحياة شيئا والحرية شيئا آخر، ولا يريد أن يقتنع بأن الحرية هي المقوم الأول للحياة، وأن لا حياة إلا بالحرية».
الكلمات التي صاغها أبو الليبرالية من الطبيعي أن تصطدم بواقع نتحدث فيه عن الجهة التي تعتبر أبو الإرهاب. وبدلا من أن نحارب الإرهاب ومحاولته تغيير أسلوب الحياة، نقدم له الدعم والمساعدة ونغذي وجوده، ونحن نقدم الحرية بوصفها خيارا هامشيا يأتي في مرحلة تالية للأمن. 
يدفع الإرهاب إلى المزيد من الخوف والإنفاق على الأسلحة، ويقود إلى تغيير الأولويات، فيتحول إلى خطاب المرحلة بحكم أفعاله وسلوكيات الحكومات التي تتعامل معه، خاصة عندما تقرر أن الحرب على الإرهاب تتناقض مع الحرية والديمقراطية، وتصبح تلك الحرب مباراة صفرية يجب على المجتمع أن يختار فيها بين الحرب والحرية، أو بين شبه الحياة والحياة.
مقولة لطفي السيد وما يرتبط بها من أفكار تطرح نفسها في ظل حديث الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي المنشور في صحيفة «الواشنطن بوست» في 12 مارس/آذار 2015، الذي أكد فيه على أن «هناك ضرورة مهمة للتوازن بين الأمن وحرية التعبير، خاصة في الدول التي تمر بظروف مشابهة للظروف التي تمر بها مصر». هذا التوازن المفترض لا يغيب فقط عن الواقع، ولكن عن الحوار نفسه الذي سيطر عليه الحديث عن الإرهاب واعتبارات الأمن وضرورتها على أي جوانب أخرى للحديث، بما فيها الحرية والديمقراطية. وعندما جاء السؤال مباشرا عن الموقف من القرار الأمريكي الصادر في 2013 بوقف إرسال طائرات أف-16 وأسلحة أخرى إلى مصر حتى تتحرك نحو الديمقراطية المستدامة، ركز الرئيس على الأعمال الإرهابية التي تحدث متسائلا عمن يقوم بتلك الأعمال في مرحلة ما بعد ٣٠ يونيو/حزيران، ومحملا هذا الطرف مسؤولية التطورات التالية بوصفه طرفا لا يؤمن بالديمقراطية ولم يرغب في المشاركة بشكل بناء في المسار الديمقراطي الذي سارت فيه مصر بعد 30 يونيو. وبهذا بدلا من أن يدافع عن صورة معينة للديمقراطية المصرية، أكد على وجود أعداء للديمقراطية التي لا تبدو ملامحها واضحة في ظل معطيات الواقع.
غابت الديمقراطية كما هي العادة في أحاديث الرئيس، التي يتم فيها التركيز على الإرهاب والتحديات التي تبرر تهميش الديمقراطية باسماء مختلفة منها، في هذا السياق، الحديث عن ضرورة التوازن، رغم أن الواقع يؤشر لحالة تنافس واضحة بين الديمقراطية والحرية من جانب، والإرهاب والحرب عليه من جانب آخر. حالة التنافس تلك مسؤولة عن جزء من واقع التناقض المصاحب للمرحلة، في ما يتعلق بالخطاب الرسمي وفي الخطاب المؤيد في وسائل الإعلام المختلفة.
تأتي أحاديث الرئيس دوما مثيرة للكثير من النقاط المهمة حول الأفكار التي يؤمن بها، خاصة تلك التي يعبر عنها علنا ويكرر التأكيد عليها، أو تلك التي يتجاوزها ويبرز غيرها على حسابها. يبدو الغياب واضحا في التعامل مع الديمقراطية والحرية، ويبدو الحضور مسيطرا في ما يتعلق بأولوية الأمن ودور الحاكم – الفرد في السيطرة على مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية. نقطة تظهر في إجابته السريعة حول ضرورة أن تدعم الولايات المتحدة مصر. وعندما يوجه له السؤال إن كان يقصد أن تدعمه وتقف بجانبه يقول إن «السيسي هو انعكاس للإرادة المصرية». صورة مكررة للزعيم المقدم بوصفه صاحب الإرادة، رغم ان الرئيس الأسبق محمد مرسي أكد على المعنى نفسه وكرر أنه جاء بانتخابات رئاسية يفترض فيها أنها كانت حرة ومعبرة عن إرادة المصريين، والرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، اعتبر أنه أول رئيس منتخب في انتخابات حرة ومعبرة عن إرادة المصريين. واقع يمتد لمراحل تاريخية أبعد تؤكد أن الحديث عن الفرد والإرادة جدلي وغير ثابت، ومختلف عن الحديث عن الشعب صاحب السيادة، وعن دعم الخيارات الكبرى الخاصة بالديمقراطية والحرية بشكل عام، وما يفترض أن تقود إليه الدولة ومواطنيها في ما يخص الحقوق والحريات والقوانين والمحاسبة التي تجعل الحاكم جزءا من الصورة. كما يعكس الحوار الكثير من النقاط التي يرغب مؤيدو الرئيس في تقديمها في إطار التسويق، من دون نقاش، خاصة التشابه مع شخصية الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، سواء في ما يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل أو فكرة استقلال القرار في التعامل مع الغرب، خاصة الولايات المتحدة. وفي الوقت الذي توجه الانتقادات إلى فترة مرسي بوصفها قريبة من إسرائيل ومصالحها، رغم الحديث عن تحالفه مع حماس في الوقت نفسه ضد مصالح مصر، وتحالفه مع الولايات المتحدة، فإن تقديم السيسي تم على أساس تقديم صورة مختلفة. 
قدمت صورة مرسي وحكمه بوصفها مرحلة العداء للدولة المصرية، وكان لابد من تأسيس صورة السيسي بوصفها حماية الدولة. ووفقا لهذا الخطاب فالسيسي استمرار لعبد الناصر، وحجر عثرة في مواجهة إسرائيل والنفوذ الأمريكي، ووسيلة مصر لسياسات مستقلة في تعاملها الإستراتيجي وحرية اتخاذ قرارتها المهمة، بما فيها مصادر التسلح. ولكن، حالة التنافس بين الأفكار الأساسية من دون الالتزام برؤية إستراتيجية واضحة تؤدي إلى إخراج خطاب متناقض، ففي الوقت الذي يقدم فيه السيسي بوصفه حجر عثرة أمام المخططات الأمريكية في الشرق الأوسط، يتم الاحتفاء بالزيارات الأمريكية والتشاور مع المسؤولين الأمريكيين، كما تم الاحتفاء من قبل البعض بإجراء الحوار مع «الواشنطن بوست»، باعتباره تأكيدا على تحسن العلاقات بين الطرفين، وهو ما يعني الاعتماد على فكرة النسيان وتصعيد خطاب العداء والصمود في لحظة وخطاب الصداقة والقيمة والأهمية في لحظة أخرى.  بدوره يعكس الحوار أهمية العلاقة المصرية – الأمريكية، وأهمية تفهم الولايات المتحدة للتطورات التي تشهدها مصر، بما فيها سياسة التسلح والعلاقات مع روسيا، كما أن الاختلافات التي حدثت بعد 30 يونيو قدمت من قبل الرئيس بوصفها مشكلة في توصيل وجهة النظر المصرية، من دون توضيح أسباب الفشل، وإن كانت لاعتبارات شكلية ترتبط بالمؤسسات والجهات المعنية، أم لاعتبارات موضوعية ترتبط بتسويق السياسات المتبعة على أرض الواقع.
أما إسرائيل التي تبدو مساحة أخرى للجدل والمزايدة السياسية في مصر والمنطقة، وبعيدا عن خطاب تقديم السيسي الناصري – القومي، فقد حرص الرئيس في الحوار على تأكيد التواصل الدائم مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، وعلى كثرة تلك الاتصالات، في الوقت نفسه الذي حرص فيه على الإشارة إلى إسرائيل بالاسم، عندما أكد على مخاطر سقوط دولة بحجم مصر على مستقبل المنطقة، مضيفا إلى تلك المخاطر تهديد أمن إسرائيل. وهنا تتضح إشكالية التناقض المصري في التناول عندما يصر على تقديم عبد الناصر جديد في الوقت نفسه، الذي يؤيد فيه تجريم حماس بوصفها امتدادا لجماعة الإخوان ويتجاوز عن الحديث المباشر عن أهمية العلاقات مع إسرائيل وأهمية أمن إسرائيل. تناقض يحتاج إلى تفكيك يفصل بين المواقف الإستراتيجية والتحركات التكتيكية المرتبطة بالسياسات المتغيرة للحظة، تلك السياسات التي ترجح بعض الأخبار تراجعها عن التعامل مع حماس بوصفها جماعة إرهابية نتيجة لتغيرات أخرى في المشهد الإقليمي، تعني أن خطاب تفعيل الكراهية المرتبط بأجندة سياسية من شأنه أن يتغير إلى خطاب الصديق، كما هو حال تغير الصديق إلى عدو مرحلي بشكل يتناقض مع خطاب الكراهية المتصاعد في الداخل، سواء في ما يتعلق بالسياسات الداخلية أو العلاقات الخارجية. حالة التعامل مع إسرائيل والولايات المتحدة كاشفة للكثير من العيوب العابرة للدول في الشرق الأوسط، فهي أحيانا دول مهمة وشريك في السلام وحليف إستراتيجي، وأحيانا عدو مهدد للمنطقة وأمنها، وكلما زاد موقف العداء زادت صورة البطولة، رغم أنها بطولة خطابية لا ترتبط بالسياسات الفعلية على أرض الواقع ولا بالحاجة لبناء سلام مستدام.
تبرز الحوارات الكثير من النقاط المرتبطة بالأفكار، ولكن من المهم التركيز على السياق، لأن الفكرة في النهاية منتج يستهدف جمهورا محددا في لحظة محددة وأسلوب تقديم يتماشى مع الجمهور واللحظة. لهذا يمكن للأفكار أن تبدو متناقضة أحيانا، ولكن من شأن التركيز على الفكرة عبر الوقت وعبر المصادر أن يوضح أسباب التناقض والمعنى المقصود ما بين الغياب والحضور، حين يكون لكلمة التوازن وقع ايجابي يختلف عن واقع التنافس والمباراة الصفرية، التي تحكم المشهد بتفاصيله وتجعل الحرية إجابة مؤجلة لسؤال ممتد لعقود.