لا شك أن بعض تداعيات زلزال الربيع العربى، هو الفوضى العارمة فى عدد من بُلدان الوطن العربى، كما نرى فى ليبيا، جارة مصر إلى الغرب، واليمن حارسة مضيق باب المندب، مدخل قناة السويس للملاحة بين أهم قارات العالم، وهى أكبر قارتين صناعيتين وتجاريتين فى العالم فى الوقت الحاضر، وربما لبقية سنوات القرن الحادى والعشرين.
ولا يوجد بلد عربى فى حجم مصر بشرياً، ولا تماسكها اجتماعياً، ولا قوتها عسكرياً، ولا زُهدها عن الأطماع إقليمياً. وهو ما يضع على كاهلها دور القيادة فى وطنها العربى. وخاصة أن حالة الفوضى تهدد مصالحها الوطنية مُباشرة.
وقد رأينا منذ أسابيع، كيف أودت حالة الفوضى تلك فى الشقيقة ليبيا، بحياة أكثر من عشرين مصرياً، تم ذبحهم نهاراً جهاراً، بواسطة متشددين، ينتمون إلى تنظيم داعش، الذى نشأ بالموصل، شمال العِراق، ثم اجتاح عدة مُدن وقُرى فى غرب العِراق، ثم زحفت عناصره إلى شمال شرق سوريا، واحتلت ما يقرب من ثلث مساحة ذلك البلد العربى المحورى، ذى الحدود المشتركة مع تركيا ولبنان والأردن والسعودية. أى أننا هنا بصدد أمر أشبه ما يكون بعاصفة صحراوية عاتية لا تُبقى ولا تذر. فالداعشيون يذبحون الرجال، ويسبون النساء، وينهبون أموال البنوك، وما تحتاجه جحافلهم من غذاء ومتاع. فهم أقرب إلى ما قرأناه فى كُتب التاريخ عن المغول والتتار الذين اجتاحوا كل بُلدان آسيا الوسطى والعِراق وسوريا وفلسطين بقيادة تيمور لنك، تستعد للزحف على مصر، دُرة الشرق العربى، وأغنى وأكبر بُلدانه فى ذلك الوقت، لولا أن جيوش مصر المملوكية، لم تنتظر، وقابلت تلك الجيوش المغولية ـ التتارية، فى مرج دابق، بفلسطين، وأوقعت بها أول هزائمهم، فتراجعوا إلى سوريا، ونجت مصر من خطرهم الداهم.
وعلى مر القرون الخمسة التالية أصبح من يحكم مصر، لا بد أن يتأكد من تأمين الظهير الحدودى، شرقاً وغرباً وجنوباً، وهى الضرورة التى كانت تدفع مصر، فى أحيان كثيرة فى تاريخها المُمتد، إلى غزو، واحتلال بُلدان الجوار، حتى تأمن الأخطار الفعلية أو المُحتملة من جانبها.
ولكن منذ أربعينيات القرن العشرين كان عدد مُتزايد من البُلدان التى تتحدث العربية قد استقلت، وسعت إلى الانتظام فى منظمة إقليمية واحدة، وهى الجامعة العربية (1945)، والتى وقّع أعضاؤها عدة مواثيق للعمل العربى المُشترك. وكانت تلك المواثيق مُسرفة فى تطلعاتها، دون أن تأخذ فى الاعتبار، آليات تفعيل ما تنطوى عليه تلك المواثيق، وما يتفرع عنها من مُعاهدات واتفاقيات، أو الضغوط الدولية المُناوئة، وخاصة من القوى العُظمى فى فترة الحرب الباردة(1945-1985).
ولم يكن يواكب زيادة عدد الدول العربية المُستقلة، التى تضاعفت ثلاث مرات، من سبع إلى اثنتين وعشرين، وظهور آليات فعالة لزيادة التفاعل والتعاون بينها، أو لتسوية وحسم ما قد ينشأ بينها من خلافات، أو توترات، أو صراعات.
وفى غياب تلك الآليات وقع على كاهل أكبر هذه البُلدان العربية، وهى مصر، أن تتحمل تلك المسؤولية ـ كما حدث مع الكويت فى بداية استقلالها (1961-1962) وهددتها جارتها العِراقية، التى ادعت أن الكويت كانت تاريخياً جزءاً من العِراق، وتريد استردادها، بعد خروج الاحتلال البريطانى منها. وحينما أدرك عبدالناصر عودة ذلك الاحتلال البريطانى بذريعة حماية استقلال الدولة الوليدة، فإنه دفع بقوات مصرية تحت علم الجامعة العربية، كما فعلت مصر ذلك مرة أخرى مع تحالف دولى، تحت علم الأمم المتحدة، حينما احتلها، بالفعل صدام حسين (1990).
كل هذه الاعتبارات المذكورة أعلاه، تعنى أن هناك دوراً عربياً إقليمياً يقع على كاهل مصر. وفيما تبقى من حيز فى هذا المقال، نستكشف ما يمكن أن يكون عليه مواصفات ذلك الدور، والذى يتراوح بين دور الشُرطى، ودور ضابط الإيقاع.
إن دور الشُرطى، هو دور حافظ النظام بتفويض من سُلطة أعلى، أو من تلقاء نفسه، وينطوى على حفظ النظام بالأوامر، التى يتوقع هو أو من فوّضه أن ينصاع لها المواطنون. وفى السياق الإقليمى يكون الاضطلاع بدور الشُرطى هذا أقرب إلى دور شقيق أكبر ينصاع له الأشقاء أو الإخوة الأصغر. وهو دور فيه من الفرض واحتمالات القهر ما يجعله دوراً غير جذاب. ولذلك سرعان ما يوحى لمن يُحاول الشُرطى السيطرة عليهم وضبط سلوكهم، أن ينتهز أقرب فُرصة للتمرد عليه، والإفلات من سيطرته الفعلية أو المُحتملة.
أما دور ضابط الإيقاع، فهو أشبه بدور قائد الأوركسترا السيمفونى، الذى يقود العازفين بروح الفريق، وحيث يحرص على مُساهمة كل عازف فى هذا الفريق. ولذلك يتعاون كل أفراد الأوركسترا بحُب وإعجاب، وعن طيب خاطر، مع ضابط الإيقاع.
وفى السياق الإقليمى العربى، لا يوجد فى الوقت الحاضر أفضل من مصر، للقيام بدور ضابط الإيقاع، الذى يمكن أن يقود فيه دولاً عربية أخرى قادرة وراغبة فى العزف السيمفونى فى منظومة عمل عربى مُشترك تقوده مصر.
وفى الوقت الحاضر (مارس 2015) لا يوجد على الساحة العربية من هو راغب وقادر على عضوية سيمفونية للعمل المشترك، مع مصر كضابط إيقاع، سوى السعودية، والكويت، والإمارات، والأردن. فهذه البُلدان العربية الأربعة مع مصر، هى نصف الوطن العربى سُكاناً (مائة وعشرون من مائتين وخمسين) ومساحة (أربعة ملايين كيلومتر مربع، من جُملة ثمانية ملايين كم2). كما أن جاهزية قواتها المُسلحة، هى الأسرع على التعبئة والانتشار، والتدخل السريع، كما فعلت السعودية كجزء من قوات درع الجزيرة فى البحرين عام 2011. وكما فعلت مصر بضرباتها الجوية فى ليبيا أوائل عام 2015.
ثم إن مصر والسعودية والإمارات والكويت والأردن، تتحكم معاً فى أهم المنافذ والمضايق البحرية الحيوية للمنطقة وللعالم ـ وهى مضيق هرمز، ومضيق باب المندب، ومضيق تيران، وقناة السويس، ولدى ثلاثة من الخُماسى، وهم السعودية والكويت والإمارات مخزون نفطى وفوائض مالية، من شأنها أن تُقنع كبار العالم الآخرين (أمريكا والصين وروسيا والاتحاد الأوروبى) على احترام أى تدخل لذلك الخُماسى العربى بقيادة مصر، للحفاظ على استقرار الإقليم، وتأمين وصول النفط من أكبر مُنتجيه، إلى أكبر مُستهلكيه.
وخُلاصة القول إن مصر مُهيأة وقادرة على أن تقوم بدور ضابط الإيقاع الإقليمى فى سيمفونية من الخُماسى (المصرى ـ السعودى ـ الإمارات ـ الكويتى ـ الأردنى)، والقابل بدوره على ضم أعضاء آخرين، مُستقبلا.
أما مهام هذا الخُماسى السيمفونى، فهى التدخل السريع، حيثما تكون هناك اختلالات، أو اضطرابات فى الدول العربية عموماً، ودول الجوار خصوصاً. وما لم يملأ هذا الخُماسى الفراغ الإقليمى، فإن دولاً أخرى غير عربية، أو من خارج الإقليم، قد تطمع فى ملء ذلك الفراغ. وهناك من الشواهد ما يؤكد هذا الافتراض، وتحديداً من تركيا أو إيران، من داخل الإقليم، وأمريكا وروسيا وبريطانيا وفرنسا والهند من خارج الإقليم. ودليلنا على ذلك هو أن الدول الخمس كانت استحدثت ملكية حاملات للطائرات وصواريخ بعيدة المدى إلى ترساناتها الحربية. فعلى مصر أن تتقدم وتقوم بدور ضابط الإيقاع فى وطنها العربى.
اللهم قد بلغت اللهم فاشهد..
وعلى الله قصد السبيل.