
بقدر ما نظريّة "الإصلاح من الداخل" متهافتة بقدرِ ما هي مُخلّدة. وقد سقطَ في أحبالها رجال ونساء بألوف. ولكنها ليست مجرّدَ حبالة. بل هيّ شماعة. وقناع. وأحياناً، في غياب برنامج، هي برنامج. على كلِّ حال هي يافطة.
وتدلُّ أزمة العمال على تهافت هذه النظرية. فهنالك تقدميون واشتراكيون انضمّوا للنظام على أساس أنّهم سيكونون علاقة بين السلطة والمسحوقين (لصالِح الأخيرين). ونظرياً هذا دور المجتمع المدني والبرلمان، وليس دوراً بيروقراطياً أو دوراً تفاوضياً يؤّديه القاعدون على مقاعد الاحتياط أو مقاعد الانتظار في التعيين. ولكن على افتراض أن النِّظام أُحادي وتسلسلي وتراتبي، وهو كذلك طبعاً، ويحتاج ضغطاً ومفاوضة داخلية لصالِح القضايا العادلة أُعطِيّ لهم الحق في التحذلق. وكانوا يتمشّون في أروقة البلاط على أساس أنّ لهم مهمة إنسانية، وأنّهم يمثلون وجهة نظر الطبقات الممحوقة في سلطة هم غير ممثليين فيها. ولكن انظر إليهم الآن: إنّهم ليسوا حتى فريق ضغط: بل يُدينُهم سكوتُهم عن "قضاياهم".
هؤلاء التقدميون، (دعكَ من بقيّة الانضماميين الذين تتعلّق برامجهم بمطالب لا ببرامج، وهمُّهُم البرنامجي الوحيد هو بناء مسجد أو مدرسة في الفيافي أو حفر بئر أو حقن معزاة وهي أشياء مهمة للحياة الأهلية، ولكنها دون ما يقصده التقدميون بالإشتراكية، وهي أقرب إلى سياسات "الأعيان" والقبائل منها إلى الملكية العامة)، لا يفعلون الآن أي شيء لقضية العدالة الاجتماعية. والأدهى، أصبحوا يُخصخِصون تضامنهم الطبيعي مع العمال، وفي المقابل يُفضِّلون الترنم بأبي تمّام والحُداء بـ"تمبرمة زينة" أو التظاهر بالإنشغال بأظافرِهم (التي قلّمها عقد الإنخراط في النِّظام).
إن النظام هو ثقب أسود: من دخله (وخصوصاً خارج عمليات تحول تاريخي أو عقد سياسي متساو) لن يعود. ومن دخله راديكالياً خرجَ متبرجزاً. ومن دخله متبرحزاً خرج أرستقراطياً. وينشغل الدّاخلون فيه في حروب الأجنحة داخل النظام أكثرَ من انشغالِهم بقضايا الإصلاح "من خارج النِّظام". وفي هذه الأثناء يتحوّلون إلى خفافيش من طول المكث في الكهف. إنّ النِّظام أداة لنفخ البطن وليس وسيلة لتسريع التّاريخ. لقد قُلنا هذا مراراً.
نظرية "الإصلاح من الدّاخل" نظرية مفنّدة. ولم تستقِم تاريخياً. ولكنّها الوحشُ الذي لا يموت. وفي كلِّ مرة يعتنقُها وفدٌ جديد على أساس أنّه هو الاستثناء وعلى أساس خصوصية اللحظة. كُلُّهم يعتقد نفسه المهدي . ليس لأنّهم نرحسيون، مع أنّهم نرجسيون غالباً. بل لأنّ النظريّة شماعة. إنّها تبرير للذات.