ليسَ الزّعيم دائماً، بفكرتِه، رجاحةِ عقله، سلامة أعضائه، كاريزماه السحريّة؛ هُناك استثناءٌ هامّ لِصالح قُدرته على الكلام، بالتالي على الإقناع في ترويجِ المُعتقدات، والرّدِِ على الخصوم المُضادّين. هذا الاستثناء ليسَ شرطيّاً في تكوين شخصية الزعيم القياديّة، لكنه. ضروريّ لدرجةِ أنّ انعدامُه يُشكلُّ خطراً. بالنّسبة له. في أفقِ نظره التخطيطي- الاستراتيجي، وصِراعاتِه المصَالحيّة. حاضراً، ومُستقبلاً.
لعلّنا نجدُ تعزيزاً، لأهميّة هذه الخاصيّة، في تاريخ الزّعامّة الانساني، في أوّلِ حالاتها المُتشكلة، عندَ الملوكِ، و الأنبياء المُصلحين، حتى أشهر الحالات المعروفة تاريخيّاً، كحالتنا التي سنُنمذِجُ بها هُنا سريعاً؛ القائد العربي: الحجّاج بن يوسف الثقفي. ذلك الذي حازَ على جانبِ نباهتِه الدّاهيّة، وقوّة شخصيّة، مكانَةً تأثيريّة كُبرى، بفضلِِ قُدرته على الخطابة. الأمرُ الذي جعله دائماً قادراً، على تبرير، وإزالة قناع السوء السلبيّ عن أشنع مُمارسته السفكيّة/القمعيّة الخطيرة. والحجاجُ ليس النموذج الوحيد الصالِح للنّمذجة التمثيلية هنا، فهناكَ في تاريخ البشريّة السياسي: القديم، والحديث من هذه الناحيّة مايكفي لهذه الحاجة.
تلك القدرة الخطابيّة الكُبرى، هيَ ما اصطلح(تُ) عليه هُنا: بـ "العُدّة النّاعمِة" في توجيهِها داخل التجاذب المعركيّ ضدّ الخصم السياسي. وهيَ ركيزةُ القولِ هُنا، لذلك فإن تحديد مفدريها التركيبيّن، على نحوٍ أوضح أمر هامّ وضروريّ. حتى تكتملَ الصورة في ذهنِ القارئ. لذا، لنبدء بـ" العُدّة" : لابدَّ للحربِ من عُدّة، سواءٌ كانَ ذلك في شكلها البدائيّ أو الحديث، والعُدّة هُنا: زرنامة الحجج والمُنطلقات المُبلورة في شكلِ ردود على الخصم المُضادّ، وتفنيدات نقضيّة لما صدَر عنه. أما " النّاعمة" فإنها تأخذ معناها من معنى العُدّة السابقة عليها، أي شكلها المطروح هنا. والمُتمثل في "قوليّتِها" و"لفظيّتِها" بالتحديد، كونها لم تأخذ مظهراً تجسدياً، عُنفِياً. يختلف عن هذه " القوليّة-اللّفظيّة" المُجهزة تجهيزاً عالياً.
والغاية هُنا تنحصرُ من حيثُ المفهوم في استخدامِ المجتمع السياسيّ المحليّ له، بشكلٍ تبريريّ، أو رديّ نقدي، أو هجومي غضبيّ. إلى غيرِ ذلك.
1- حالة طيف المُعارضة:
في زمنٍ قريب، ماقبل نكوصيّة المُعارضة الحزبيّة في طريق الدّعوة إلى الرحيل الثوري، كانَ جميل منصور مغناطيساً جذّاباً لصالحَ قطب المُعارضة أولاً، وحِزبه الاسلامي ثانيّاً. بسبب خطابيّته العاليّة، وقُدرته على النّطق المُفوّه. الشيءُ الذي كان فيه مُتميزاً، دون مُنازعٍ مُنافِس. على الأقل في نِفس القطب السياسيّ. هذا، وإن كانَ ذاك لايدلُّ على أنّه الوحيد القادِر في حسنِ لفظه على الجذب المغناطيسي، فحالة العميد المصطفى بدر الدين، تجعل المجالَ مفسوحاً، أمام استثناءٍ مُطلق، على الرّغم من التفاوت البيّن بين الاثنين. في نفسِ الحالة. إذْ يبدو منصور متقدماً على بدر الدين. لكنَ، هذا لايرجعُ لعامِل الخبرة السياسيّة التجريبية، الذي يتقدّم فيه بدر الدين على منصور بأشواطٍ بعيدةَ، بقدرِ مايرجعُ لعاملِ تكويني مُختلف كُلياً، عن غيره من العوامل الأخرى.
شاعتْ قدرة جميلة الخطابية في الوسط المُجتمعي على نحوٍ واسع. الأمر الذي فخمَّ من صورته الكاريزماهيّة في أعينِ أتباعه، لدرجة جعلت أعلبهم يكادُ ينزلُ من عليائه إلى قدميْه سجوداً. من شدّة التقديس. بينما ساهمتْ في حِدّتها التأثيرية لدى خصومِه، في الطرف الآخر المُوالي. حيثُ أصبحَ يُثير قدراً من الخشية في نفوسهم حينَ يتعلّق الأمرُ بهجومٍ أو ردٍّ ما.
كانتْ خِطابيّة جميل الوحيدةَ القويّة في طيفه السياسي. وفي حزبه على الأخص، فالرجلُ ظهرَ مُتميزاً على أقرانِه في الحزب، خاصة ولد غلام المُنعدِم الخطابيّة. الضعيف الأسلوب؛ مايجعلنا نظنُّ أنّ الأول نالَ مكانتُه فيه بفضلِ خِطابيّته العاليّة.
لقد وظفَّ جميل خِطابيّته المُغذّاة بخلفيّة برغماتيّة قويّة في مُمارساته السياسية . خاصة حينَ قام فيما بعدْ بتبرير مُشاركته في انتخابات عام 2014. والتي قصمتْ ظهر شُركائه المُعارضين، الذين قاطعوها على كُليّتهم. ومازالَ حتى اليوم يستخدمُها، لأغراضٍ مُتباعدة. تختلفُ طبائعها فيما بينها. لدرجة أنّه يُصعبُ التكهنُ بها، لكن الأهم أنّ جميل بتلك الخِطابيّة العربيّة المشهود بها له لايُمثلُ حصناً حصيناً للمعارضة الحزبيّة. ففي المُعارضة الحزبيّة خطابيّة لهجيّة قويّة. تتجسّد في بعض قادة أحزابها؛ بداية من : بدر الدين، داداه، ولد مولو ..الخ.
2- حالة طيف المُوالاة:
غالبا، الموالاة أحوج من غيرها للخِطابيّة في بعدها التبريري لتصرّفات السلطة، والدّفاعيّ عنها. خاصة إنْ كانتْ على مِثال السلطة عندنا. بجنرالها العسكراتي العزيزي الأبله في حديثه، وتبريراته. أمام الشعب في لقاءاتِه به. وفي المؤتمرات الدوليّة وغيرها؛ مايجعلنا نعتقدُ أنّ الأمرَ يتجاوزُ ذلك لدرجة أنّه لايُسحنَ نطق الحروف والكلمات نطقاً سليماً، دونَ أن يلفظها لفظاً كارثياً مُشوّهاً. فتراه يلحنُ في هذه الكلمة، وهذه الكلمة. إلى أن تملَّ من سماعِ حديثه الذي يُخيّل لك أنّ مُتحدّثه لم يُحسن في مرحلة صباه تهجيّة الحروف، إلى أنْ كبُرَ فظهرَتْ مُشكلته مُتضخمة. والظنُّ أنّ ذلك صحيحٌ في حالتِه.
لعلَّ خِطابيّة الموالون اليوم تتجسّد في بعضِ قادتهم، دون كافتِهم. كما المُعارصة. من ذلكَ مايُشاع عن أحدِ أقطابها الحاليين: سيد محمد ولد محم. رفيق جميل الايدلوجي السابق، وصديقه. ذلك الذي قرّبه النّظامُ منه لاحسانِه الدّفاع عنه، في أكثر من مُقابلة ولقاء ومنُاسبة. الأمرُ الذي سيجعله فيما بعد النّاطق الأوّل باسمِه، والرّادِ القويّ على التُهمِ الموجهةِ إليه. من طرفِ خصومِه، والرّافضين لتصرفاتِه. هذا مايتضحُ لنا في تحوله الوظيفي في القطب الموالاتي المُناصِر للسلطة.
اليوم، مازالَ ولد مُحم قادراً على الدّفاع عن النّظام، والتحدث باسمِه. نظراً لِخطابيته وقُدرتِه على الرّد، والاقناع=ارتداء القِناع!. لكنَ وجهاً جديداً أصبحَ يحلُّ محلَّ وجهِه في وسائل الاعلام الرسميّة وغيرها، من وقتٍ لآخر. فمن هو ياتُرى؟
إنّه المُتحدث الآني باسمِ الحكومة: ايزيد بيه ولد محمد احمود. الذي ظهرَ أنه يختلفُ كلياً، عن سابقيه. والظاهرُ أنْ لاحقِيه أيضاً، فالرجلُ الذي يتجّهد في نطق المُفردات، ويزنها حقها، مُختلف كثيراً، عن سابِقه.
إنَّ خِطابيّته عربيّة قحّة، لذلك نراه يصكُّ اللغة على طريقة القدماء. دونَ تمايزٍ كثير، مايجعلها في غالبِ الأحيانٍ تبدو خشبيّة الأسلوب؛ إنّ اللغة هي مُرتكز عمل ايزيد بيه هُنا. علاوةً عليها نُطقها الحسن. الذي يحترفُه على نحوٍ مُختلف. مايجعل مثلاً: الصحافة التي تسأله في مؤتمرٍ صُحفي، لاتملكُ سوى الرضا بما قدّم من تبريراتْ، ودِفاعياتْ بدتْ مُغلّفة في بغطاءٍ لغويّ قويّ ومتين.
3- في الجهاتْ الأخرى:
هُناك خِطابيّة أخرى، تبدو للنّاظرِ لها بدايةً هامشيّة، لكنها قويّة التأثير. في الواقع المُحيط بها. هذه الخِطابيّة لهجيّة أحياناً، ولغوية: عربيّة/فرنسية أحياناً أخرى. وفي بعضِ المرّات تتلبس بلباس القضيّة المحمولة في طيّاتها.
يُمكن هُنا إدراج اسم بيرام ولد الداه أعبيدي زعيم حركة إيرا الانعتاقية. من ضمن هذه الخطابية المُزعجة. ذات التأثير القويّ في الواقع المُجتمعي العام. والتي تأخذ مكانتها التأثيرية، بفعلِ حمولة قضيتها المطروحة بداية وأخيراً، دونَ أن نغفلَ هنا عامِل التكوين في شخصية القائد الكاريزماهية، خاصةً إنْ كانتْ بثقلِ بيرام.
4- ماذا بعد؟
كانَ يُمكِنُ إدراج شخصيّات سياسيّة من قبيل : مسعود بلخير، عبد السلام ولد حرمة، وغيرهم. ضمنَ هذه الخطابيّة في أشكالها المُتعدّدة: الفصحى، اللّهجيّة-وطنياً. الفرنسيّة. لكن هذا ليس هو الغرض. من حيثُ رصد كُل هذه التمظهرات الخطابيّة في المشهد المحليّ. بقدرِ ما الغرض الحقيقي مُحاولة تفسير ومُقارنة هذه التمظهرات ببعضها البعض، في أوجه الصراع، والتباين بينها. سعياً إلى إدراك حقيقة الواقع السياسي المحلي الضبابيّ المشهد، في أبعادِه المُختلفة.
نقلا عن مدونة الكاتب