في جذور التطبيل

ثلاثاء, 2015-03-17 14:16
أبو العباس إبرهام

ربما بولِغَ فليلاً في جلد الذات بخصوص "تصفيق الشرق". وقد استخدمَ البعض نظرية "الاستبداد الشرقي" للقول بأبدية الديكتاتورية الاجتماعية والتملُّق في "الشرق". وقد بكى البعضُ الآخر من الإذلال الذي قدمّه "الشرق" لذاته بإقحام قضايا التعليف في الاستقبالات الرئاسية. وخاضَ البعضُ نقاش المدانة ضد البادية بالقول إن تطبيل "الشرق" عائق أمام تحرُّر الطبقة الوسطى من ديكتاتورية انتخابات الأعيان.

وبرأيي من الأهم النظر في الجذور التاريخية للتبعية. قبل ذلك من المهم تفكيك نظرية سُلطانية "الشرق". فليس دعمه للسلطة تلقائي. ومنذ بداية التسعينيات إلى اليوم تراجعت نسبة تأييد السلطة في "الشرق" من 92% في 1992 إلى نسبة 59% في 2014. هذا عدا نسب تراجع المُشاركة وزيادة الإضرابات والتنافس على الزعامة القبليّة والإدارية.

تاريخياً هنالك قصة أخرى. كان الرّيْع غير مُمركز في "الشرق". ورغم أن هذا لم يُحبِّذْ فكرة تأييد الزعيم الأوحد (لأنه لم يكن أوحد في ظلِّ تعدُّد السطات) إلاّ أنّه حبّذ ثقافة التأييد والبيعة، لأن بقاء سلطة في عالم متعدِّد السلطات كان تقوم على التحكم في الكتلة القبلية الواحدة. ولكن، وكما في نموذج إقطاعيات ما قبل الدولة الوطنيّة، فإنّ الملك أو الحامي صار تعبير القبائل عن وحدتها لأنه كان يضمن سلاسة النظام؛ وكان بمعنىً ما حكماً للصراعات النفوذية والهوياتية.

أيضاً ساهمت الطبيعة الإنتاجية للشرق، حيث قامت الرعوية البقرية مقام الرعوية الإبلية، في تثبيت الإقطاعية العقارية لأن البقر ليس بمستقلٍ ترابياً، عكس نمط الهجرة البعيدة، وبالتالي الاستقلالية، الذي تسمحُ به الإبل. ومع تحوُّل البيضان إلى ملاك مزارع في القرن التاسع عشر، وخصوصاً في سهول باسكنو والنعمة وولاتة ولعصابة، ازدادت قيمة السيِّد كضامن وموزِّع للمصادر. مع الاستقلال صارت هذه الموارد في يد الدولة المركزية، التي حلّت محلّ الإمارة في النفاذ على شروط الحياة الأهلية، وخصوصاً من الأعلاف والمياه والسدود، الضامن للحياة المحلية. وقد زادت الدولة الوطنية على الإمارة والرِّئاسية والقافلة بالتّحكم ليس فقط على ريْع البدو والرُّحل بل بالتحكم في ريْعِ الطبقة الوسطى بتمثيلها في الدولة المركزية وبختم سلطتها في المجالس المحليّة. وبقدر ما تحكمت هذه البرجوازية بقدر ما حاكت علاقات ريْعية مع الحياة الأهلية الرّعوية وألزمتها التبعيّة. وطبعاً هذه علاقات تُحاكُ بالتأييد وتدليك الأرجل وبالأهازيج والاستقبالات.

وهذه ليست قصة "الشرق" وحده. هذه قصة موريتانيا، الفقيرة، التراتبية، غير القادرة على النفاذ للمصادر بدون علاقات القوى القائمة وبدون تكريس الفذلكة والتبعية.