مدخل (من خطبة بتصرف): قضية اجتماعية، بسببها انتشرت البغضاء، ومنها انبعثت الأحقاد ولها تعددت التوجهات السلبية الضيقة، ومع كل أضرارها وجدت رواجاً عند ضعاف الإيمان بالله و الوطن، واستغلها أعداء التمكين لدولة القانون أبشع استغلال.
لم تدخل في مجتمع إلا فرقته، ولا في صالح إلا أفسدته، ولا في كثير إلا قللته، ولا في قوي إلا أضعفته، يشب عليها الصغير ويشيب عليها الكبير، وتتبناها حُثالة المجتمع.
إنها العصبية القبلية المقيتة، إنها الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب، الفخر بالأرض والتراب، إنها الفخر بالعرق واللون والجنس، بل و يمتد رواقه إلى التعصب للرأي. إنها دعوى الجاهلية تأصلت فيمن رَقَّ إيمانه وضعف يقينه وطُمس على قلبه وغَفَل عن أصله وحقيقته و فرط في بلده لأجل نزوته.
يقول الله تعالى ذاماً أهل الحمية لغير الدين: إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ (الفتح:26)، وجاء في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية"... انتهى
ما هي الصفة التي يمكن أن ينعت أو يتسمي بها اجتماع أقوام تحت مظلة "الجد الجامع" أو "العصب الرابط" إذا لم تكن الصفة أو تسميته هي"القبلية" لائقة لتعارضها مع "مفهوم الدولة"؟ و إن الامتناع عن ذلك بهذه الحجة و العمل في تجاهلها بمقتضى هذه الاجتماعات لإحراز التميز المطبوع بالقوة و الفوقية و السبق إلى حيازة كل نتيجة نفعية و قيمية، لا يمكن أن يخرج عن جوهرها و من تحت دثارها بكل أوجه الموضوعية.
و إلى أي منطق يجب أن يعزى تقاطر الأفراد و وصول الجماعات أعيانا و عامة إلى هذا التجمع الذي يفترض أن يكون من زمن آخر و ذلك اللقاء الذي ينتمي لمنطق بالي من أجل تدارس أمر أيا كان من وجهة نظر تذلل لها كل العقبات حتى تكون محل إجماع و تكتسب طابع "الجماعة بقاسم النسب و العصب"؟ فهل لا يعزيان، بجرأة متحررة من قيود الظلامية و الانصياع للقهر الرجعي الإقطاعي، للقالب القبلي المخالف لروح كيان الدولة الجامع علما بأن كل الخطوات و ما مهد لها من نوايا و مساعي صب في مفاهيمها، خالف الدستور و ضرب عرض الحائط بأمن الدولة و وحدتها بأن اكتسب طابع الاجتماعات الخارجة في بنيتها و أهدافها على قبة الكيان لموحد؟
و أما الجهوية السلبية فلا تقل خطرا على وحدة الكيان و توازنه بحيث تنادي قوى منتمية جهويا بأسبقيتها في إنشاء المشاريع الإنمائية على حساب جهات البلد الأخرى المشكلة معا للحيز الترابي الوطني و بالأسبقية في الوظائف الحكومية المتقدمة و التسييرية العالية دون اعتبار لموازين الشأن السياسي و التخطيطي العمراني للبلد. هي ظلامية من نوع آخر تتدلى في قلة بعد نظر فاضحة لا تنم عن الوعي السليم و الإدراك الموضوعي لخطورة هذه المطالب الرعناء؛ مطالب تنسف كل قيمة علمية و نخبوية عن أصحابها و تعرض المنطق الوطني للاهتزاز فالتقسيم بأن تعين و تشجع كل صوت نادى أو يعتزم المناداة بذلك.
و إن أعظم ما تعانيه هذه البلاد الغنية بخيراتها، الفقيرة بانطوائيتها على مفاهيمها القديمة التي تنبذ العمل و تشجع على الكسب السهل في حاضنة الأنانية الفئوية القبلية والعشائرية و الطبقية الإثنية و الجهوية المجزأة السلبية و انتهاج مسلك المداراة و المراوغة و ازدواجية التعامل و التفكير و سلبية العطاء. هي حقائق مرة لكنها لا تخفى في ممارسة شعائر الحياة اليومية حيث:
· التخلف مزمن رغم الأعداد الهائلة من خريجي المعاهد المهنية و العلمية و في الجامعات الكثيرة و المحاظر العريقة،
· و السلوك فوضوي و عشوائي و ارتجالي على الرغم من انتشار المدارس و المساجد،
· و الحيف متقمص كل الأشكال من الإقصاء إلى التهميش بفعل قادرين عليه و مستضعفين مهيئين بفعل الحرمان و الفقر،
و أما الطامة الكبرى فهي أن المتعلمين و المثقفين، و الأطر، و العمال و عامة المواطنين يبدون و كأنهم راضين به وضعا سليما يجد فيه كل ذاته. و لكن و بعيدا عن هذا الاستنتاج القاسي الذي يفرض نفسه، لا بد أن يتدارك الغيورون على هذا الكيان -إن وجدوا- الوضع المختل للبلد و الذي تنخره و تمزقه التناقضات من ناحية، و أن يسعوا في جهد مضاعف إلى العمل على الوقوف بحزم أمام هذا المد القبلي الطاغي و الاستنطاق المعلن للإثنية و التوجه بالمد المطلبي المشروع للمظلومين من الشرائح إلى دائرة العنف و الإساءة على وحدة وطن هش بما ينوء به من خلافات سياسية لا تلبى أدنى مطالب قيام دولة القانون و المواطنة.