دائما ما تتردد داخلي كلمات الشاعر محمود درويش «لا عرش لي إلا الهوامش»، ربما لأن المتن نفسه لا يقدم إجابات كافية، رغم أنه يقدم لنا دوما في غلاف الإجابة الشافية.
ولأن من يقدم النص يتصور أنه وحده يملك حق التفسير ويرفض الاسئلة، فإن الهامش يظل أكثر براحا من المتن، والواقع يظل رغم كل أحاديث الدعم والتأييد بلا نقاش أكثر اتساعا وتسامحا مع حالة القلق والاسئلة المتصاعدة، في ما يتعلق بتطورات الأحداث التي تخص الوطن والبشر.
ورغم كل الأحاديث عن الشعب الذي قام بثورة أعقبها بثورة للتغيير، في فترة قصيرة من عمره، رغم صبره وصمته لسنوات طوال، يصر البعض على تكرار كل الماضي في تناس خطير للتطورات التي مرت على الوطن الكبير والصغير، في عصوره التاريخية القديمة والحديثة، وكأن علينا أن نبدأ دوما من بداية الحكاية، وأن نتحدى التاريخ من خلال الأرقام بدلا من الإنجازات الفعلية على الأرض. وبهذا، يصبح علينا أن نجلس ونستمع إلى الأرقام التي تؤكد على أن المشروع المقبل - أيا كان اسمه- أكبر من الأهرامات وأعظم من السد العالي، وقيمته تزيد عن قيمة نهر النيل. يضاف إلى تلك الوصفة المتوارثة في المحروسة، الحديث عن هدم المؤامرات وإذلال الأعداء وإجبارهم على الخضوع للزعيم الحاكم، أيا كان اسمه في المرحلة المعنية باستخدام الخطاب المناسب لها فكريا، سواء أكان قوميا أو دينيا أو عسكريا.
ومع تحدي التاريخ والعالم الخارجي، تستمر الإضافات التي تؤكد على مكانة المشروع في التاريخ المصري، وكيف أنه سيغير حياة مصر والشعب المصري ويضع مصر على خريطة العالم، باعتبار أن ما سبق - وفقا لهذا الخطاب - فشل في وضعها على الخريطة، أو أنها مجرد اسم على ورق، بلا معنى ينتظر من يمنحه القيمة. إلى جانب قدرة المشروع المطروح على الدخول بمصر إلى عصر الحداثة والازدهار والإحياء، حتى إن كان النظام القائم يكتسب شرعيته من أنه امتداد لما سبقه، ويرفض بشكل مباشر الاعتراف بالأخطاء السابقة التي أوصلت مصر إلى أن تفتقد المكان والمكانة المنتظرة من تلك المشاريع التاريخية التي نسمع عنها الكثير في لحظة الإعلان والاحتفال، قبل أن تختفي خلف غيرها من الإعلانات أو المشاريع الجديدة التي لا تتوقف عن تكرار خطاب الحداثة والإنجاز.
لم تختلف تلك الصورة عن تصريحات متكررة من قبل رموز السلطة التنفيذية وغيرهم من المسؤولين المصريين، من وزير سياحة يرى من بداية توليه لمنصبه أن دوره هو وضع مصر على خريطة السياحة، ورئيس وزراء يرى أن المؤتمر الاقتصادي الذي عقد في شرم الشيخ في مارس 2015 حقق أهدافه ونجح أثناء انعقاده وليس بعد فترة من تقييم الأداء، وكشف حساب الوعود والواقع، مع خط متصل من التصريحات والتعليقات التي ترى في انعقاد المؤتمر وما صاحبه من حضور ووعود، أو اتفاقات مالية، شهادة نجاح رغم أن الفوائد لم تظهر بعد، والأوضاع في المحروسة لم تتغــــير وعصر الحداثة في انتظار وصول الكهرباء وغيرها من الخدمات الأساسية إلى بيوت الشعب المصري، أو في انتظار أن يحصل الناس على سكن حقيقي قبل أن يحدثهم أحد عن المنتجعات السياحية والعاصمة الإدارية والأراضي التي تخصص بالمجان للمزيد من المناطق المغلقة على سكانها، وقبل أن تتحول فكرة العاصمة الإدارية الغامضة إلى عالم آخر مغلق لمن يملك أو يعمل في جهات معينة، لتترك القاهرة «القـــديمة» لمعاناتها المستمرة والمتعاظمة مع غيرها من سكان المحروسة، الذين كتب عليهم توارث الحزام وشده من فترة لأخرى.
ومع إطلاق الحديث عن العاصمة الإدارية أو العاصمة الجديدة أو المدينة الجديدة - التي لم يحدد لها اسم بعد - بوصفها مجرد امتداد حديث للعاصمة القائمة، تظهر حالة غياب التخطيط والرؤية، التي ترتبط لدرجة كبيرة بتحديد صفة المدينة المخطط إقامتها والمستهدف منها، والجمهور الذي تسعى للوصول إليه والذي يفترض أن يحدد ما هي تلك المدينة وما هي ماهيتها الحقيقية، وهل هي عاصمة فعلا، وإن كان هذا المستهدف هل يملك فرد أو مجموعة أفراد إصدار قرار بشأن تأسيس عاصمة جديدة بدون معرفة رأي الشعب نفسه، أم أنها مجرد جــــزء من المشهد الدعائي، ومدينة تضاف لغيرها من المدن الجديدة التي أقيمـــت في مراحل تاريخية سابقة، ولكن لا يرغب أحد في استخدام مصطلــــح فشل مرات في مشروع يتم تسويقه بوصفه طريق مصر لعصـــر التنوير، كما هو في حالة امتداد قناة السويس التي تقدم بوصفها قناة جديدة، وسط جدل لا ينتهي حول التوصيف وكل ما يحيط بالمشــروع وآثاره المحتملة.
يرى البعض أن فكرة العاصمة الجديدة أو الإدارية عظيمة في إطار حركة المشروعات التي تحتاجها مصر، ولعل هذا ما يفسر إسراع محافظ الإسكندرية إلى الإعلان عن اللقاء مع المستثمرين من أجل إنشاء مدينة إدارية جديدة في المحافظة، وربما تتوالى مشاريع المحافظات لتنضم إلى المشارع المعلن عنها، لنصبح أمام مصر جديدة باسماء عواصم جديدة، وهو إنجاز كبير سيتم الاحتفال به والاهتمام بتغطيته إعلاميا، خاصة في تلك المحافظات التي لاتزال في حرب فاشلة ضد القمامة وكيفية تجميعها والحفاظ على نظافة شوارعها، رغم كل الأموال والخبراء الأجانب والصور الاحتفالية. وبهذا نجد أن هناك تساؤلا مهما طرحه حول الأولويات التي يتم على أساسها تحديد المشروعات وتوقيتها وانعكاسها على الأوضاع القائمة، في ظل تزايد حالة المعاناة الاقتصادية وانعكاساتها الاجتماعية التي لا يمكن إنكارها.
فهل من الطبيعي الحديث عن كل المشروعات التي تم الإعلان عنها في توقيت متقارب كما يحدث، وهل هناك خط متصل يربط بين تلك المشروعات ويجعل من الممكن محاسبة وتقييم مدة التنفيذ والعائد وتعديلها أو اتخاذ خطوات بشأنها. وهل من الرشادة تخصيص تلك الموارد، بما فيها الاستثمارات والمعونات وغيرها من صور التمويل المادي المقدمة، نحو مشاريع تنفذ بالتوازي على سنوات ممتدة، بدون النظر لتأثيرها المباشر على حياة المواطن اليومية، وهل يصح أن نتحدث عن مواطن في المستقبل لمواطن يعايش المعاناة في الحاضر. وهل يتسق الحديث عن سيادة القانون والإصلاح والعدالة الاجتماعية مع إرساء المشروعات للشركات المنفذة بالأمر المباشر، في الوقت الذي يتم فيه تحصين العقود التي تبرم مع المستثمرين وبدون وجود رقابة أو معرفة بحدود تلك المشروعات ومتابعتها ومتابعة تأثيراتها مع الوقت. وهل تتسق المشروعات المعلنة بما تشمله من إنفاق على المنتجعات والمدن السياحية أو الاستثمارية الطابع، مع الحاجات الفعلية للواقع المصري بعد عقود فساد وإفساد وسنوات ثورة وحرب ضد الثورة والإصلاح. هل يتسق الحديث عن رفع الدعم بصوره المختلفة بشكل تدريجي عن مجالات متعددة منها، التعليم بدون ضبط الأسعار وجودة الخدمات المقدمة، في الوقت الذي يتم فيه تخفيض الضرائب على أصحاب الدخل المرتفع وتحديد فئات دخل عليا يتم استثناؤها من قانون الحد الأقصى للأجور.
بدوره علق مواطن مصري مازحا على خبر تخصيص أراض بالمجان من أجل إنشاء منتجعات سياحية في الإسكندرية واصفا إياه، بأنه خبر مهم حتى يتوقف عن التفكير في الدولة التي سيتوجه إليها في إجازته الصيفية، التعليق الذي حصل على إعجاب غير قليل يعبر عن قيمة السخرية في مواجهة الواقع وتناقضاته ولسان حال المواطن ألا عرش له إلا هوامش الأخبار وصفحات التواصل الاجتماعي، خاصة ان كل نظام يقول له إن عليه أن يقبل بهامش الحياة وهامش العاصمة وهامش المدن الساحلية وهامش الرخاء، الذي تحدثت عنه كل النظم السابقة فلم يبق له إلا الحزام لشده والفرج لانتظاره وظلت تحارب هوامش صوته في الشارع، كما في وسائل التواصل الاجتماعي، وهي تخشى على ما يبدو من أن يأتي من «يضيء لمن سيأتي بعده أثرا غنائيا… وحدسا»، على طريقة درويش وعلى طريقة حلم التغيير والعدالة الاجتماعية التي يصعب أن تغيب عن الهامش بدون أن تتحول إلى أصل المتن وأن تثمر حياة كالحياة.