استثمار أم «استحمار»؟

اثنين, 2015-03-23 01:03
عبد الحليم قنديل

ما من عاقل يجادل في النتائج المبهرة لمؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي، فقد حقق نجاحا سياسيا مذهلا، رغم عنوانه الاستثماري، وحقق نجاحا اقتصاديا كاسحا في جلب الاستثمارات، وسرى بحالة من التفاؤل غير المسبوق في الأوساط الشعبية الواسعة.
ولا يجادل أحد في تزكية الدور الشخصي للرئيس عبد الفتاح السيسي، فقد بدا أنه يتحول من رئيس منتخب إلى زعيم حقيقي، يمتلك بصيرة نافذة، ويراهن على ما يبدو مستحيلا، وتصدق توقعاته وحده، التي بدت لكثيرين ـ كنا منهم ـ مغالية وحالمة جدا، وحتى الحكومة نفسها لم تكن تتوقع كل هذا الفيض، فقد كانت تتوقع تدفقات استثمارية في حدود 15 مليار دولار، وكان الرئيس السيسي وحده يستهدف استثمارات خارجية في حدود المئة مليار دولار، وتحقق بالأرقام ما يبدو أكبر من توقع الرئيس، وبلغت جملة الاستثمارات الموعودة ما يصل إلى 175 مليار دولار، كثير منها في صورة مذكرات تفاهم أولية، في حين وصلت التعاقدات الفعلية الجادة إلى ما يقل قليلا عن المئة مليار دولار التي حلم بها الرئيس.
وقد قرر الرئيس أن يعقد المؤتمر الاقتصادي العالمي سنويا، وهذا قرار في محله تماما، ومن شأنه أن يحول مصر إلى قطب جاذب للاستثمارات، وإلى ورشة عمل كبرى في المنطقة، تستهدف جلب استثمارات خارجية بين مئتي مليار وثلاثمئة مليار دولار، وهو المبلغ الذي يستهدفه الرئيس، ويراه ضروريا لتمويل بناء مصر جديدة صناعية متقدمة، وفي سياق نهوض جديد، يعى دروس تجربتي محمد علي وجمال عبد الناصر، وهما التجربتان اللتان أشار إليهما السيسي في اعتزاز عظيم، وبروح من «الوطنية الصوفية « يمتاز بها الرجل، الذي يتحول الآن إلى زعيم وطني وعنوان لمشروع اقتصاد جديد.
ولا يبدو نجاح رهان السيسي الاستثماري منفصلا عن رهانه السياسي، ولا عن القدر المتحقق من انجازاته السياسية الخارجية بالذات، فقد نجح الرجل في بناء صورة عربية ودولية مختلفة لمصر، وبلور دوائر دعم عربي ودولي لمصر الجديدة، أقام تكاملا وظيفيا بين قوة مصر العسكرية والرمزية والقوة المالية لمعسكر دول الخليج، وقلص الاعتماد على التبعية الموروثة للسياسة الأمريكية، وأدار في شهوره التسعة الأولى انفتاحا غير مسبوق على قوى الدنيا الجديدة، وطور شراكات استراتيجية مؤثرة مع روسيا والصين وعواصم نافذة في الاتحاد الأوروبي، ولم تكن مصادفة بغير مغزى موحى، أن مؤتمر شرم الشيخ سبقته زيارة بوتين الناجحة جدا إلى القاهرة، وتلحقه زيارة الرئيس الصيني المحورية، ونتجت عنه دعوة إنجيلا ميركل إلى السيسي لزيارة برلين عاصمة الاقتصاد الأوروبي، فالرجل يركز على علاقات الأوزان الثقيلة، التي تضيف مددا هائلا لبناء طاقة انتاج حقيقية في مصر، تزود الجيش المصري بأحدث أسلحة العالم، وتطور صناعة سلاح ذاتية في مصر، وتقيم تكاملا محسوسا للصناعات الحربية مع الصناعات المدنية عبر ما قد تصح تسميته برأسمالية الجيش البازغة، وتستأنف البرنامج النووي السلمي المصري بعد توقف لأربعين سنة، وتقفز بإمكانات توليد الطاقة بما فيها الطاقة النووية، وهو ما يفسر أولوية الاستثمار في محطات الطاقة، وفي مشروعات قناة السويس الجديدة، وفي المشروع الطموح لاستصلاح أربعة ملايين فدان جديدة، وفي بناء المدن المليونية العملاقة، وفي استثمار الموقع الجغرافي المميز لمصر، وفي توثيق عرى دائرة مركزية تصل المحيط العربي بالعمق الأفريقي، وفي التركيز على مشروعات كثيفة العمالة، تمتص الملايين من فوائض البطالة في مصر، التي تصل الآن إلى 12 مليون عاطل، فضلا عن إضافة نحو مليون طالب لفرصة عمل سنويا في مصر المثقلة بأوجاعها الموروثة.
والمتابع لما جرى في مؤتمر شرم الشيخ، ولتعاقدات الاستثمار فيه، وحتى لمذكرات التفاهم والنوايا المبدئية، المتابع المدقق يلحظ شيئا مهما في ما نعتقد، فقد ازدحم المؤتمر بجماعات ممن يسمونهم برجال الأعمال والمليارديرات المصريين، الذين احتفوا بالتسهيلات الحكومية الجديدة في قوانين الاستثمار، وبتخفيضات الضرائب، وبالامتيازات الموعودة، وأقاموا الأفراح والليالي الملاح المتغنية بكرم الحكومة وتشريعات «السداح مداح»، ولكن بدون أن يدخلوا طرفا في التعاقدات الاستثمارية التي جرت بعشرات المليارات، فلم نلحظ وجود أي رجل أعمال مصري في اتفاق مهم مع شريك استثماري عربي أو أجنبي، اللهم إلا باستثناءات لا تكاد تذكر. وبدا الطرف المصري في الاتفاقات محفوظ الاسم والرسم، فقد كانت الدولة هي الطرف المصري المتكرر في الاتفاقات الكبرى، وغابت أسماء مليارديرات النهب العام، فهم ليسوا رأسماليين بالمعنى المفهوم في الدنيا كلها، بل مجرد جماعة «نهب ــ مالية»، وما من علاقة جدية تربطهم بالمعنى الانتاجي، ولا بالمشروعات كثيفة العمالة، وهم مجرد نهازي فرص عابرة، أقرب إلى اقتصاد الخدمات أو اقتصاد المضاربة أو «رأسمالية الشيبسي»، وقد حضروا المؤتمر كمناسبة علاقات عامة، يقيمون فيها روابط وصلات مع وزراء ومسؤولين، ويتطلعون إلى استعادة ما كان في الثلاثين سنة الأخيرة بالذات، يحثون فيها الحكومة على خصخصة و»مصمصة» ما تبقى من وحدات القطاع العام المتآكلة، وبيعها لهم بتراب الفلوس، وتفكيك المصانع، وتسقيع الأراضي والمضاربة العقارية، وهو ما عبر بعضهم عنه علنا، في حين تكتم آخرون، ودخلوا في جولات استطلاع وجس نبض، والتأكد من فرص لاحت في تشريعات الاستثمار الجديدة، ومع أحاسيس لا تخفى من عدم الاطمئنان الكامل لنوايا الرئيس السيسي، الذي تبدو تصوراته الضمنية مختلفة، ويبدو حذره ظاهرا، ومع التفضيل الظاهر لرأسمالية دولة جديدة، لا تحول فرص الاستثمار إلى نوبات «استحمار»، على نحو ما جرى خلال أربعين سنة أعقبت حرب أكتوبر 1973، تدفقت فيها على مصر منح وهبات ومعونات وقروض استثمارية، بلغت في جملتها ما يزيد على 300 مليار دولار، ولم تكسب منها مصر سوى الخيبة تلو الخيبة، وانتهت إلى انهيارات ومظالم وطبقة نهب قامت عليها الثورة، التي بدت إشارات الرئيس السيسي إليها – أي إلى الثورة – مما زاد فيه غضب مكتوم لمليارديرات النهب، الذين صدمتهم إشارات السيسي – على منصة ختام شرم الشيخ – إلى الثورة، وإلى الاعتزاز الفياض بتجربتي محمد علي وجمال عبد الناصر بالذات.
صحيح أن مشروع السيسي لا يبدو مباليا إلى الآن باعتبارات العدالة الاجتماعية، ولا باعتبارات توزيع المغارم، ويحمل الفقراء والطبقات الوسطى بأعباء وتكاليف فوق ما تطيق، تزيد من عنت «بطولة البقاء على قيد الحياة» التي يعيشها أغلبية المصريين، وتوالى في موجات ارتفاع الأسعار وتكاليف الخدمات العامة المتدهورة أصلا، وفي خفض دعم الطاقة والدعم السلعي، وهو ما يريد الرئيس السيسي مواصلته في برنامج إنهاء الدعم على مراحل سنوية، وبما يزيد من احتقان وغضب اجتماعي واسع يصح الالتفات إليه، ليس على طريقة الرئيس التي تواترت، والتي يقول فيها إنه لن ينتظر حتى يثور المصريون للمرة الثالثة، وإنه ليس حريصا على البقاء في منصب الرئاسة، فليس هكذا تورد الإبل أو تستقيم الأوضاع، بل بجرأة وشجاعة «التصحيح الذاتي»، وبتوزيع الشعور بالعدالة، وبالأخذ «من كل برغوث على قد دمه»، وبالانحياز الصريح لغالبية المصريين من الفقراء والطبقات الوسطى، الذين أثبتوا بالاكتتاب الشعبي في «مشروع قناة السويس» أنهم السند والمستثمر الأعظم في مستقبل مصر، وصنعوا معجزة قابلة للتكرار، وقد دفع هؤلاء وصبروا وتحملوا وأملوا ويأملون مع الرئيس، الذي يتوجب عليه الإنصاف ضمانا لاستقرار وأمن اجتماعي حقيقي، بتفكيك الاحتقان الاجتماعي والاحتقان السياسي. فالإرهاب مشكلة ظاهرة تواجه مصر الجديدة، لكنها الأهون خطرا إذا قيست بالفساد الأخطر، ويملك الرئيس أن يحقق امتيازا لسياسته الداخلية يساوى امتياز سياسته الخارجية، لو أنه التفت إلى عورات الداخل المصري، ولو أنه أنهى الثنائية المهلكة لوجود رئيس جديد يحكم بالنظام القديم ذاته، ولو أنه أقدم على ما هو حق وعدل، ووجه ضربة كبرى إلى تحالف البيروقراطية الفاسدة ومليارديرات النهب، ولدى الرئيس كل الملفات، ويملك أن يضاعف تفاؤل المصريين بنتائج مؤتمر شرم الشيخ، وأن يحوله إلى قوة دفع هائلة للعمل الوطني، لو أنه أقدم على المواجهة المؤجلة، واسترد ثروات مصر المنهوبة، لا أن ينتظر ـ فقط ـ استثمارات خارجية بمئات المليارات، لا ينازع أحد في احتياج مصر إليها، لكنها ـ أي مصر ـ تحتاج إلى استرداد نفسها، وإلى توليد الثقة بأن الاستثمار هذه المرة لن يكون بوابة نهب إضافية، وأن الاستثمار لن يتحول مجددا إلى «استحمار» واستعباد لغالبية المصريين.