(قراءةٌ نقدية في المشهد الثقافوي المحليّ)
لايتحدّد الفكرُ بفعلِ المُمارسة الذهنيّة فقط. إنه بالضرورة مُمارسة نقديّة وابستمولوجية قلقة، تسعى لأشكَلة قضايا الواقع من خلال نزع البداهة عنها، هذا، كما أنّه يسعى لخلق مفاهيمِه الخاصة، و التي تخوّله بمصداقية من ولوجِ عالم التنظير والنّقد الواسع.
إذاً، هكذا يتحدّدُ معنى الفكرالمُشاكس أولياً، في إطار تعريفيّ مُحتصر يمّهَد من خلاله هنا تعريف المُفكر كمُمارِس جديّ. بعد التساؤل عن هويته: من هو؟ ما صفاتِه المطلوب تمثلها؟ شروطه الحقيقيّة المُوجبة للتصنيف الصحيح؟
الحقيقة أنّه يُمكن تعريف المُفكر على ضوء التعريف السابق للفكر، هذا كمُمارس فاعل، لكن ذلك – على ما يبدو لي- غير قادر على التحديد الصحيح، للمُفكرالمُبتغَى هُنا، أيْ بوصفه: صاحب مشروع فكريّ مُتميّز، في قراءة بعضِ الاشكاليات المعرفية/الذهنية، الواقعية. بعدَ أن يكون وظفَّ في مُمارسته القرائية لها، ما قدِرَ علي توظيفه من العلوم الانسانية. كعامل ضروريّ يُعينُه على القراءة الجادّة. الساعي من خلالها إلى تكوين رؤية مُتميزة، تثري الحقل الفكري، وتوّسع من آفاقه، حاضراً ومُستقبلاً.
لكن، المفكر يتحدّد تحديداً آخرَ، هو كونه بالضرورة: نقدّي، تفكيكي، مُستقلّ، يُمارس عمله من موقع الهامِش الخارج على السلطات كُليّةً، والمُتحرّر من اليقينيات المُغلقة. التي من شأنها أن تُعوّق طريقَ تفكيره الحرّ/ اللاّقبلي. ذلك الذي سيجعله يطرح الأسئلة الخطيرة بالحاح أكثر من مايُقدّم الأجوبة الجاهزة؛ إن هذا التحديد الأخير، علاوةً عليه الأوّل. يجعل وصف المفكر، وصفاً استثنائياً، في ضرورة تحققه بمعايير مُختلفه ونادرة جداً.
هُنا، ربّما، نفهم السرّ في أنّ المفكرين الحقيقين اللازائفين، في عالم الثقافة العربية العام، يُعدّون على رؤوسِ الأصابع، بوصفِهم أصحاب قراءات مُتميّزة، ورؤى عالية العمق، و يُغرّدون خارج السّرب برؤاه القبليّة اليقينية. وربّما، نفهم أيضاً السرّ في انعدامهم على واقعنا المحليّ الآني. الذي ينعدمُ فيه المفكر الحقيقي، بشكلٍ كامل، يُمحي الأمل في الحاضر، ويُهدّده إزاء المُستقبل، مادام الحالُ على ماهو عليه في الرّاهن.
هذا مايظهر لنا منذُ الوهلة الأولى، حينَ نتساءل حول بعضِ الأسماء والظواهر الافتراضية التي اقترنَتْ بها هذه الصفّة، في المشهد المحلي، وتم ترويجُها عنها، عن طريق الاعلام، والأتباع العُمي، ثم القرّاء العُجالي. والآن، لنبدأ في ذلك التساؤل من خلال بعض النماذج:
هل يُمكنُ عن طريق التجرد والتحقّق وصفُ الأديب ناجي الامام بـ " المُفكر الموريتاني" كما تقولُ ذلك واجهة موقعه الشخصي الالكتروني، كتعريف به. وهو الذي يقتصرُ فضاؤه الثقافي على الادب كاللاّمُفكّر فيه وبه؟ هل للأديبُ مؤلفات فكرية تُعطيه هذه الصفة؟
الأستاذ محمد المهدي البشير، الذي يُوصَف في المنابر الإعلامية بـ" المُفكر الاسلامي" هل يُمكن وصفه بهذه الصفة؟ وهو الذي يبدو كالمفتي الديني في قوله بالرأي الشائع" حلالية وجوازية الاستماع للموسقى"؟ هل كتابه عن أزمة الفقه السلطاني يصلحُ كمعيار؟ مع أنه تشنجَ غضباً حين كتبَ أحدهم مقالةً قرائية حول كتابه، تنتقدُه في بعضِ النّقاط. هل للاستاذ المذكور أفكارٌ ابداعية في ميدانِ الفكر الاسلامي، خارج اقتباساته من الآخرين ؟
أتباعُ القيادي التواصلي حالياً محمد غلام، والعسكري سابقاً: يصفونه بالمُفكر الاسلامي، هكذا مرةً واحدة، دونَ أن نعرفَ منهم تلك المعايير التي خوّلته لذلك الوصف عندهم؟ ولكن، هل هُو حقاً مُفكّر في حقلِ الاسلامياتْ؟ ما جديدهُ الابداعي؟ أجدّد في الفقه؟ أطرَح رؤىً متقدمّة تخرجُ على إطار الفتوى التقليدي لتصلَ الاجتهاد الفكري الحُرّ؟
هناك اسماءٌ أخرى، تُطلق عليها الصفة بشكلٍ أعمى، كالشقيطي، واسحاق الكنتي، و الشيخ سيد عبد الله، الذي أعلنَ ذاتَ مرة، أمام جمهوره الاعمى، أنه لم يقرأ مقال الاساءة المغضوب عليه، وأنه يفتخرُ بذلك، ليُجاري الغوغاء في تصرّفها الناقص، مع أنّه كان ينبغي عليه تجسيد حسه النقديّ، وأن لايندفع وراء عواطفه كما هو الحالُ مع جماهير الغوغاء، التي ينبغي للمثقف عامّة أن يخرج عليها، من موقع الهامِش، لينتقد، ويتساءل، ويُخالف بجرأة واعية.
هذا، وإنْ كانَ هناك من يُمارسون العمل الفكري الدّراسي الجادّ ، في أشكاله المتعدّدة، دونَ إبداعٍ كامل. ومع بعضِ النواقص التي تجعل من المُستحيل وصفهم ب" المفكرين" من هؤلاء: عبد الودود الشيخ، السيد ولد أباه، البكاي عبد المالك...الخ
إنّ الاعتباطية هي أساسُ هذا التصنيف، الذي جعل وهماً نرجسياً عالياً يُعتقد، من طرف كثيرين، في أنّ لدينا مفكرين حقيقين، لديهم رؤاهم الخاصة، من ضمنَ مشاريع فكريّة كبرى، تُفسّر، وتنقُد، وُتراجع، وُتبلوِر رؤيةً جديدةً للسائد، تختلف عن الشائع، وتتميّزُ عنه بجديدها المُختلف. والحقُ أن لاشيءَ من كُلّ ذلك، فبعضُ الذين اقترنتْ بهم هذه الصفة هم من مُمارسي العمل الذهني في بعضِ جوانبه، وبعضهم الآخر ناقص الاجتهاد الذي يدعيه في ميدانِ الدين، وبعضهم الآخر مُضخِمٌ نفسه دونَ داعٍ، ودليلٍ، ومعيارٍ، يُخوّلُ له أحقيّة ما وصف به شخصه، وصنّفه حسبه، في خانتِه اللاّمستحقة.
نقلا عن مدونة الكاتب