المعرفة الأدبية بين الكلام والكتابة

ثلاثاء, 2015-03-24 21:54
زهور كرام

المعرفة نتاج إنساني مستمر، لا تعرف الانزياح عن التطور، إلا إذا تخلى الإنسان عن فكره، وغادرته الدهشة، وابتعد عن التأمل. المعرفة بصمة وجود الإنسان، في حواره مع الوجود. وبالتالي، تصبح المعرفة وجه الحضارات والمجتمعات والشعوب. كلما خفَ نورها، تراجعت الشعوب عقودا إلى الوراء، وبدا المستقبل أكثر التباسا. لكن، حتى تصبح المعرفة وجه المجتمع، تؤشر عليه، وتبصم رقيه، فلابد للمعرفة أن تتحقق سلوكا في الحياة والمعاملة والتفكير والتدبير والدهشة والحلم والأمل. باختصار، تصبح مُكونا إنسانيا. المعرفة عندما تظل خطابا وأفكارا ومفاهيم وتصورات، خارج الممارسة، مجرد درس نظري، تتم دعوته عند الحاجة، ثم الانصراف عنه، عندما تتراجع الحاجة إليه، تفقد شرعيتها التاريخية. لهذا، يقاس الرقي الحضاري بمدى تحقق المعرفة ممارسة في الحياة والتصورات والمفاهيم. 
كل أشكال المعرفة تبدأ موضوعا للتفكير، وعندما يتم تفكيكها وإدراكها وإنتاج وعي بمنطقها، تتحول إلى أداة لتأمل موضوع آخر. لكن، ذلك لا يتحقق وظيفيا، إلا عندما تتمثل الذات المعرفة باعتبارها إمكانية للتحول الاجتماعي والذهني.
يعد الأدب بمختلف تعبيراته الرمزية خطابا معرفيا، يقترح نفسه موضوعا للقراءة والتحليل باعتباره شكلا تعبيريا عن تحولات الواقع، لكنه، يتحول إلى وسيط معرفي لإنتاج وعي بشكل التحول. من هنا، تتشكل ذاكرة التفكير، التي نعني بها، قدرة الأفراد والشعوب على استثمار إمكانيات هذه العلاقة التفاعلية الوظيفية بين المادة باعتبارها – في الوقت ذاته – موضوعا ووسيطا للإدراك. وكلما تم تمثل هذه العلاقة، ازداد التفكير حيوية ونشاطا، وانعكس ذلك على حياة الأفراد والشعوب. 
تدعو هذه العلاقة بين الموضوع والوسيط الإدراكي في المعرفة الأدبية إلى إعادة النظر في وضعيتها، سواء في الخطاب النقدي، أو الدرس الأدبي. ولعلنا، نرصد بعض مظاهر هذه العلاقة، في وضعية النقد، باعتباره الخطاب المعرفي المُؤهل لتحرير الأدب من وضعه/الموضوع، وجعله إمكانية للتفكير في الواقع، وتحولات نظامه. ولعل سؤالا بات يُطرح في المشهد العربي، إما بشكل مباشر، أو بطريقة ضمنية حول ماهية النقد الأدبي اليوم ووظيفته ودوره في إثبات أدبية أو لا أدبية النص الأدبي. ولعله سؤال مباشر/ضمني يرد ضمن شرط ثقافي لم تعد ملامحه واضحة، ومؤسساته مُعلنة. 
قبل هيمنة الوسائط التكنولوجية التي سمحت بحرية انتشار التعبير والكتابة، كانت المؤسسات الثقافية والفكرية، تحضر في الوعي الجماعي الثقافي باعتبارها مرجعيات للسؤال المعرفي – الثقافي، المرجعية في معنى كونها تخلق مادة معرفية، مع أسئلة سياقية، تجعل المتلقي والكاتب يشتغلان ويفكران ضمن مناخ ثقافي، تحدده طبيعة عمل المؤسسات، وعلاقتها بالسؤال المعرفي، ومنظورها للفعل الثقافي، واستراتيجيتها في الخطاب الثقافي، ونوعية المعرفة التي تدعمها، والمناهج التي تنتصر لها، وغير ذلك من محددات كل مؤسسة على حدة، أضف إلى ذلك المؤسسة التعليمية بمختلف محطاتها، من الابتدائي حتى الجامعة، كان منطق المؤسسات واضحا، وإن تعثر وضوحه – أحيانا- عندما يخضع في رهاناته للسلطة السياسية، أو يتحول إلى أداة للمنطق الحزبي والإيديولوجي، غير أن المؤسسات ظلت تشكل أهم روافد المناخ الثقافي، ولا نقصد بالمؤسسات فقط الاتحادات والجمعيات والروابط ذات المشروع الثقافي، إنما أيضا المجلات والملاحق الثقافية، والصالونات الأدبية، ومختلف مجالات تجلي الثقافة. ويكفي أن نشير هنا، إلى مجلة «الآداب» البيروتية التي تأسست سنة 1953، والدور الرائد الذي أنجزته للثقافة العربية، من خلال دعم الفكر الحداثي في الرؤية والسؤال، فشكلت إلى جانب مجلات أخرى، سياقا ثقافيا أنتج مرجعية للقراءة والكتابة. 
كما نستحضر ضمن هذا المقام الاسترجاعي دور الملاحق الثقافية في الصحف العربية، التي كان لها الفضل في نشر ثقافة النقد الأدبي المعتمد على نظرية الأدب، والطروحات الحداثية الغربية، والاهتمام بنشر ثقافة المناهج الأدبية الحديثة، من دون أن ننسى دور الترجمة التي كانت شريكا فاعلا في تنشيط حركة التفكير النقدي، من خلال ترجمة أعمال كل من ميخائيل باختين، وكريستيفا، وجيرار جنيت وآخرين، إذ شكلت كتبهم مراجع مهمة في توجيه الدرس النقدي في المشهد العربي، إضافة إلى مجلات ارتبط ظهورها في الجامعات الفرنسية منذ نهاية الستينيات بالانتصار لنظرية النص الأدبي، والاهتمام بالقارئ والتلقي، واعتماد مفاهيم جديدة في الوعي بالأدب، والارتقاء بالتفكير. ويكفي أن نستمع إلى الناقد المغربي عبد الفتاح كليطو، في كتابه «الأدب والغرابة دراسات بنيوية في الأدب العربي» ( 2006)، وهو يتحدث عن الدهشة الأولى، عندما سمع بهذه المجلات النقدية، حتى نُقيم هذه العلاقة بين تطور الفكر النقدي والفلسفي وحيوية المناخ الثقافي والعلمي.
يقول: «في يوم من أيام سنة 1968 أو 1969، سمعت أساتذة فرنسيين يتحدثون عن العدد الثامن من مجلة لم أكن أعرفها، كومينيكاسيون، قالوا إنه عدد مخصص للتحليل البنيوي للسرد ويتضمن مقاربة جديدة للأدب. كنت حينها أستاذا مساعدا في قسم الفرنسية، وعلى العموم كنت راضيا عن طريقتي في تناول النصوص الأدبية، طريقة أصفها الآن بالتقليدية» (ص5)، ويضيف، «اضطررت إلى رفع التحدي، وما شجعني على ذلك أن الاهتمام بالشأن الثقافي كان يتسم في تلك الفترة بالحماس، (….)، كان علينا أن نبدأ من الصفر (…) وكنا مثلا ننتظر بفارغ الصبر صدور أعداد من مجلة الحركة الشعرية الفرنسية، وكان صدور كتاب لتودوروف يشكل حدثا مهما» (ص6). يشكل تصريح عبد الفتاح كليطو، بعض مظاهر مكونات المناخ الثقافي العربي، التي ساهمت في إنتاج رؤية جديدة للأدب، وحررت التفكير النقدي من رتابته، ومن التصورات التقليدية. وعندما نعيد اليوم قراءة كتب كليطو، سنلتقي بمشروع فكري متماسك، أعاد التنظير في التراث السردي العربي، بدون إعاقة فكرية ومنهجية.
وساهم بالتالي في تحرير التواصل مع التراث الأدبي، وجعله حيا نابضا، وفاعلا في الحاضر، من خلال استثمار مبادئه وعناصره وأشكاله، ومنطق اشتغاله، كما أسست رؤيته الفكرية حالة حضارية، جعلت الفكر الغربي والعالمي يتواصل مع السرد التراثي العربي من خطابه، ومعماريته الفنية، وهندسته الجمالية-المعرفية التي تُشخَص رؤية العالم لدى المبدع العربي. المعرفة الأدبية تبدأ إذن، موضوعا للنقد، لكنها تتحول إلى وسيط لإنتاج معرفة بقضايا أخرى. ولهذا، أمكن الحديث عن العلاقة التفاعلية الوظيفية بين الأدب والتفكير فيه. كل طرف يُطور الآخر، ويسمح بوجوده الفلسفي.غير أن، حديثنا عن المرجعية، لا نقصد بها سلطة معرفية، تتبنى فكرة الإلزام والتوجيه المباشر، إنما نقصد مكونات المناخ الثقافي التي تسمح بتحرير التفكير من خلال الأدب، وتُحول الأدب إلى واجهة لإعادة فهم المجتمع، ولعل هذا التصور، هو الذي يشكل مضمون السؤال المباشر/الضمني حول ماهية النقد الأدبي اليوم. أمام تراجع صورة هذا المناخ، أو بتعبير أكثر دقة، أمام ظهور مناخ جديد، يعتمد المبادرة الفردية، ويشتغل خارج سلطة المؤسسات الجماعية، فإن الضرورة التاريخية للمعرفة، باتت تتطلب تحليلا سياقيا لملامح هذا المناخ، والنظر في وضعية مكوناته، وقدرته على جعل المعرفة الأدبية وسيطا لتمثل التحولات السياسية والاجتماعية والنفسية للمجتمعات والشعوب.
لقد أصبحنا نعيش مناخا مختلفا، ولا شك أنه يؤثر في مفهوم الكتابة الأدبية، وأشكالها وأجناسها وأساليبها، وكذا قراءتها ونقدها. وأصبح الاهتمام بالكتابة أكثر من التفكير فيها، والدليل، ارتفاع الإصدارات الأدبية، أكثر من الإصدارات النقدية والفكرية، كما أن القراءة باتت- في أغلبها- تخضع للمواقع الاجتماعية، التي ساهمت في نشر معجم أقرب من الكلام منه إلى الكتابة التي – كما يقول عبد الكبير الخطيبي في تقديمه لـ»الأدب والغرابة» تنبني في الاختلاف مع الكلام وذلك بالقدر الذي يتحتم عليها ألا تُقلده مطلقا، ولا أن تستنسخه طبق الأصل» (ص9).