قطاع التأمين في بلادنا وجهود الإصلاح

خميس, 2015-03-26 07:24
محمد يسلم يرب ابيهات

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام علي سيدنا محمد، وعلي آله وصحبه أجمعين،

سعيا إلي إنارة الرأي العام حول ما يجري حاليا من إصلاحات تهدف الدولة من ورائها، فيما يبدو، إلي ضمان حقوق جميع الأطراف المعنية بقطاع التأمين، والرفع من مستوي الرقابة الفعلية والمتابعة الضرورية لأداء الشركات العاملة في هذا القطاع، يطيب لي أن أساهم بالتوضيحات التالية꞉

أولا꞉ لم تقرر الحكومة أي زيادة علي أسعار تأمين السيارات، كل ما هنالك أن التعريفة الواجب تطبيقها، لم تكن تطبق بالشكل المطلوب من طرف شركات التأمين وكان التلاعب بها سائدا لدرجة أن الأقساط المكتتبة لم تعد تغطي حتى القسط الفني، ومن ثم تجد مؤسسات التأمين نفسها عاجزة عن تحمل أعباء التسيير، فتصبح عاجزة من باب أحري عن التعويض للمتضررين من الحوادث المؤمن عليها.

 ولتوضيح ذلك، نعطي مثالا بسيطا꞉ سيارة من فئة 7 إلي 10 حصان، استخدام شخصي، 4 مقاعد، نجد التسعرة المخصصة لها في التعريفة المعممة من طرف الوزارة الوصية علي مؤسسات التأمين هي꞉ 31.006 أوقية، للسنة. وبدلا من إلزام الزبون بدفع هذا القسط كاملا، تعمد مؤسسات التأمين، في تنافسية محمومة، غير رشيدة ولا مبررة، إلي قبول مبالغ زهيدة تصل أحيانا إلي 18.000 ألف أوقية، أو حتى أقل لتأمين هذه الفئة من السيارات.

ولعل هذا الأمر يتخذ حجة من الحجج الباطلة الأخرى التي سيتذرع بها البعض من مالكي السيارات، والسائقين، الذين لا يرون في التأمين أصلا إلا إجراءات شكلية، وأوراقا يعرضونها لشرطة المرور أثناء الرقابة الطرقية، حيث سيدعون زورا، أن تطبيق التعريفة الرسمية وإلزامهم بها سيؤدي إلى زيادة ما كانوا يدفعونه مقابل الحصول علي أوراق التأمين لسياراتهم. بيد أن الحقيقة هي ببساطة، أن علي الجميع الالتزام بما هو مقرر من طرف الدولة. كيف لا، وهي الجهة الوصية، والجهة المنظمة، والضامن الأول لأهلية هذه المؤسسات، والترخيص لها لمزاولة أنشطة التأمين. كما أن علي الجميع أن يفهم أن التلاعب بالأسعار لا يخدم مصلحة أحد.

ثانيا꞉ إن علي شركات التأمين الوطنية أن تفهم أنه ليس من مصلحتها ولا من مصلحة القطاع أن يظل عدم احترام التعريفة شائعا، والمضاربات سائدة بين فاعلين اقتصاديين محترمين، من المفروض أن يكونوا أول من يحرص علي الالتزام بالقانون والنصوص المنظمة. حيث لا بد من احترام النصوص والقوانين والمبادئ المنظمة لهذا القطاع الحساس، والذي يخضع عالميا لرقابة وتنظيم صارمين، ومرد ذلك إلى أنه لا بد من الحفاظ علي مصالح المؤمن لهم، وعدم السماح لمؤسسات التأمين بالتهرب من مسؤولياتها، والتي هي بالأساس القدرة علي التعويض العادل والنوعي من حيث جبر الضرر بدون مماطلة ولا تسويف. ولقد وصل الوضع في بلادنا إلي حد من التلاعب بالأسعار في تأمين السيارات لم يعد يطاق، وأول من يدرك ذلك ويعيه حق الوعي والإدراك هم العاملون والفنيون في مؤسسات التأمين، تلك الفئة المغيبة، التي لا يسمع لها صوت، ولا تملك منبرا تسمع منه صوتها بشكل مستقل ومحايد. إن الفنيين –وهم علي قلتهم- لا يلعبون أي دور للأسف، في قطاع كان من المفترض فيه الاستماع أولا وقبل كل شيء إلي الخبراء وتوجيهاتهم. ماذا بوسعه أن يفعل، ذلك الفني السامي في الرتبة في مؤسسة تأمين، لكنه لا يملك أي سلطة؟ فهو يخضع لسلطة وتوجيهات رجل أعمال متنفذ ، همه الأكبر الحصول علي أكبر قدر من السيولة وقت الاكتتاب، أي أثناء مرحلة البيع، والتهرب بشتى الوسائل وبمختلف الذرائع من المرحلة الثانية والأهم، والتي تتمثل في دفع التعويضات المستحقة. فإما أن يذعن هذا الفني المسكين لمنطق المنافسة غير الشريفة، لكي يوفر سيولة هائلة لمالك الشركة، ويظل يماطل مستحقي التعويض، ويتمادي في الكذب عليهم بمواعيد لا يتم احترامها من طرف المالك والمسير الأول، أو يخسر عمله. هذه حقيقة مرة، يعرفها جميع العاملين في القطاع. يضاف إلي ذلك ضرورة مشاركة الفني المسكين، أو غضه الطرف، عن كل ما يرى من تلاعب بالمحاسبة –ظاهرة وجود محاسبة جانبية- داخل الشركة والبيانات والقوائم المالية المزورة، في حين تلتزم شركات التأمين، عالميا، بأقصى درجات الشفافية في هذا المجال.

ثالثا꞉ لقد قررت الجهات الوصية مؤخرا، إلزام مؤسسات التأمين بالعمل وفق المقرر المشترك رقم꞉ 0213، الصادر بتاريخ 27 / فبراير/2015 والذي يحدد إجراءات إنشاء مخالصة مؤمنة مقابل تسديد عقد التامين. لكن، للأسف الشديد، لم تواكب هذا المقرر المشترك حملة توعية تشرح مضامينه، علي الأقل فيما يخص تداعيات تطبيقه علي حملة الوثائق. حيث فوجئ هؤلاء بمطالبتهم من قبل أمن الطرق، والدرك، علي المحاور الرئيسية الرابطة بين المدن، بضرورة إحضار وصل المخالصة الجديد، والذي كان من الأولي والأنسب أن تكون شركات التأمين قد سلمته لهم قبل أن يسألوا عنه. فعلي من يقع اللوم في قلة التنسيق هذه؟

إنها، بالتأكيد، وبالأساس،مسؤولية شركات التأمين التي كان عليها أن تسارع إلي تسليم حملة وثائقها التأمينية تلك المخالصة التي فرضتها الدولة. فنظام المخالصة المؤمنة، سيمكن الدولة، ومن دون أدني شك، من متابعة مستحقاتها من ضرائب ورسوم هي في أمس الحاجة إليها، وسيمكنها كذلك من متابعة رقم الأعمال الحقيقي الذي تحققه هذه المؤسسات، مع العلم أن هذه الأخيرة ملزمة بالتصريح به والكشف عنه، كما تنص علي ذلك القوانين والإجراءات المنظمة للقطاع. لكن الحقيقة المرة الأخرى، والتي يعرفها جميع الفاعلين في هذا الميدان، هي أن التصريح برقم الأعمال الصحيح، بشكل نزيه وشفاف من أشد المستحيلات تحققا في بلادنا، إذ يتذرع الجميع بعدم التزام الآخرين به، فتخسر الدولة، ويخسر المواطن، ويخسر القطاع، وهذا لعمري سلوك غير مشرف وغير مقبول.

لكم أن تتصوروا، وهذا أبسط مثال، مدي تضرر قطاع التأمين من عدم الشفافية، ذلك أنه يستحيل، أقول يستحيل إطلاقا، القيام بأي نشاط تأميني – حسابات أكتوارية، إحصاءات، بيانات، أرقام مرجعية عن سوق التأمين للدراسة والتحليل، ....الخ- مع انعدام الشفافية. فالقطاع الوحيد الذي لا يتحمل انعدام الشفافية، هو قطاع التأمين. وتجدر الإشارة هنا إلي وجود منظمة عالمية هي الجمعية الدولية لهيئات الإشراف علي التأمين، والتي وضعت معايير نموذجية لنظم الإشراف والرقابة في التامين علي مستوي العالم. وتقول هذه المنظمة إن مبادئ التامين الأساسية التي أقرتها ''تشكل إطار عمل مقبول عالميا لتنظيم قطاع التأمين والإشراف عليه.''

ونجد في المبدأ ال12 من هذه المبادئ، ꞉ (( تحصل هيئة الإشراف علي المعلومات الضرورية لإجراء الرصد المكتبي الفاعل وتقييم وضع كل شركة تأمين بالإضافة إلي وضع سوق التأمين ككل.))  

فهل من سبيل إلي ذلك إذا لم تكن مؤسسات التامين عندنا مستعدة للشفافية في التعامل، مع زبنائها أولا، وفيما بينها ثانيا، ومع الدولة ثالثا، ومع شركائها الدوليين رابعا. لك، عزيزي القارئ، أن تتصور كم هو مخجل أن تتمتع مؤسسات تأميننا الوطنية بسمعة سيئة، جراء عدم وفائها بالتزاماتها مع شركات إعادة التامين الدولية. انه لأمر يحز في النفس، أن تكون مؤسساتنا الوطنية تتحايل، عن قصد، وعن غير قصد، في تعاملها ليس فقط مع الدولة، ومع حملة الوثائق، ولكن أيضا مع شركاء أجانب، كان بالإمكان، لو أحسنا التعامل معهم، أن نمكن مواطنينا، ورجال أعمالنا، واقتصادنا بشكل عام، من الاستفادة من صناعة مزدهرة عالميا، هي صناعة إعادة التأمين.   

وفي الختام، إن كان من توصية أوصي بها في هذا المقام، فستكون بالتأكيد وصيتي لأرباب وملاك شركات التأمين الوطنيين، بالتعاطي الايجابي مع الجهود التي تقوم بها الدولة حاليا من أجل الرفع من مستوي أدائهم والرقي بقطاع التأمين في بلادنا إلي مستوي من الشفافية تمنحه المصداقية الضرورية لكي يحظي بالاحترام محليا ودوليا. وبالتأكيد سوف يكونون المستفيد الأول من تحقق ذلك. وأقول لهم ꞉ لا داعي للمماطلة في تنفيذ ما قررته الوزارة الوصية من اعتماد نظام مخالصة مؤمن. فهي خطوة أولي من نوعها، جبارة، ستمكن من متابعة صناعة التأمين في بلادنا بشكل أدق وأكثر شفافية، وذلك بشرط أن تصدق النوايا، ويعقد الجميع العزم علي إنجاح كل جهد من شأنه الرفع من مستوي قطاع التأمين في بلادنا.

 كما أوصي الدولة، ممثلة في الوزارة الوصية، بالصرامة  في تطبيق كافة النصوص القانونية والإجراءات التنظيمية التي تقرها، وعدم الرضوخ لضغوط أي لوبي أو مجموعة ضغط مهما كانت قوتها. وأول ما تستعين به السلطات في هذا المقام هو إسناد مهام الإشراف والرقابة والتفتيش والتحري والمتابعة إلي رجال أكفاء مهنيا، يشهد لهم بالنزاهة والصدق وبالإخلاص في هذا القطاع.  

 

انواكشوط 25/03/2015

محمد يسلم يرب ابيهات