جائزة نوبل والشعب والرئيس في حقل الشوفان

جمعة, 2015-03-27 23:32
عبير ياسين

في روايته «الحارس في حقل الشوفان» لا يتوقف الكاتب الأمريكي جيروم ديفيد سالينغر عن الإشارة إلى الكثير من السلبيات التي تتجاوز السلوك المباشر إلى الفكرة الحاكمة لعلاقات البشر داخل الجماعات المختلفة، كما يراها بطله هولدن كولفيلد. 
أما النقطة الأساسية التي تثير حالة الغضب لدى كولفيلد، الذي تحول بدوره إلى رمز للرفض تحت شعار «كلنا هولدن كولفيــــلد»، فتبدو واضحة في فكرة «الزيف» التي تتردد داخل فصــــول الرواية، خاصة عندما يرغب البطل في التأكيد على حــــالة التناقض التي تحيط به. تلك الحالة التي يمـــكن اختصارها بحالة الزيف متعـــددة الأوجه والمراحل، والانعكاسات، حسب نطاق الزيف وأهدافه وسبل تسويقه أو امتداده، من شأنها أن تصف الكثير من الأشياء في عالم السياسة، كما هو الوضع في واقع الحياة الاجتماعية والعلاقات الانسانية.
فبدون كلمة مفتاحية، مثل الزيف، قد يصعب فهم الكثير من التناقضات المحيطة بالمشهد المصري وما فيه من خطاب رسمي وإعلامي مسيطر، يقف يوما ضد موقف ما باعتباره تهديدا خطيرا للدولة المصرية، ويقف في يوم آخر واصفا الموقف نفسه بأنه خطوة تاريخية لحماية السيادة المصرية في الحاضر والمستقبل، وما مثال سد النهضة الذي تقيمه إثيوبيا على نهر النيل ببعيد عن عالم الجدل والاختلافات التي تصل إلى حد التناقض بين الخبراء في مجالات التخصص نفسها، في اللحظة وعبر الزمن الممتد منذ طرح المشروع والزخم الذي أحيط به في ظل رغبة البعض في التعامل معه خارج الموضوعية، وفي إطار استهداف حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي، ومع تغير الأحوال أصبح من الضروري بالنسبة لهم البحث عن تبريرات مختلفة وخطاب تسويق مغاير لما كان، رغم أن النهر والسد واحد.
حالة الزيف تلك تتجاوز حسابات المكسب للواقع نفسه، الذي لازال يكشف عن الكثير من الوقائع بفعل ثورة يناير، التي حركت الكثير من المياه الراكدة على السطح، واستمرت في تفاعلاتها عبر الوقت، كاشفة عن عمق الزيف الموجود والتغيير المطلوب. زيف يكشف عن نفسه في مواطن لا يتوقف كثيرا أمام أوضاعه خلال عقود، ولم يتظاهر من أجل تحسين تلك الأوضاع ولكنه تظاهر وتجمع – ولازال- رافعا صور الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، معتبرا أنه رمز لا يمس ومطالبا بتكريمه. وهو زيف يكشف عن نفسه فيمن وقف خلال فترة مرسي مدافعا عن حق المواطن في التظاهر، وحقه في الحصول على الخدمة، قبل أن يتراجع عن حديث الحقوق بعد مرسي، ويرفع حديث شد الحزام، والوقوف بجوار الدولة في مرحلة المعاناة، وعدم مساندة الإرهاب عبر التظاهر.
وهو زيف يكشف عن نفسه فيمن تجاوز أن ثورة يناير هي التي حركت المياه وخلطت مكوناتها بكل صورها، وسمحت بالتغيير وراء التغيير، وهي التي ارتبطت بمطالب منح نوبل للسلام إلى مصر أو شعب مصر أو شباب الثورة، قبل أن يتم تقليصها – كما هي عادة الشخصنة في عالمنا- إلى مطالب بمنح نوبل للسلام للرئيس عبد الفتاح السيسي. ورغم أن يناير كانت حراكا واضحا على الأرض، ونواة تغيير كان التصور وقتها أن يكون إيجابيا – أن أتيحت له فرصة النمو، فإن خطاب نوبل للرئيس قائم على تصور منع حدوث الفــــعل، عبر منع تحـــول مصر إلى طالبان أو أفغانستان، بدون محاســبة ما يتم على الأرض فعلا وما نحن عليه وما نتجه إليه.
تبدو حالة الزيف أحيانا مستهدفة أو مرحبا بها، لأنها قادرة على إعطاء قيمة لأشياء لا تستحق القيمة التي تقدم لها، أو تستحقها في سياق مختلف يفصل بين أن يكون الشخص قائد الضربة الجوية، وبين أن يكون من «فتح باب الحرية» كما تردد الأغاني المصرية. يقف الزيف في مساحة داخلية وهو يمنح معنى لسنوات المعاناة، وبدلا من الاعتراف بحجم الخديعة – إن لم يكن الشعب/ الشخص يعرف، أو الصمت والقبول بحالة الظلم – إن اعترف بمعرفته- يتم تضخيم حالة الضربة الجوية وحالة «حرب» رابعة العدوية، ونستمر في عمليات تضخيم تعمل على تهميش الواقع وتضخيم صورة الزعيم. وعندما تمر سنوات العمر ويكتشف المواطن في مصر أو غيرها أن معاناته كانت تتم بالتوازي مع حالة الفساد والإفساد القائمة، وإن معاناته لا تعني فقر دولته، يرفع من خطاب الزيف أو يصدق خطاب الزيف الدائر حوله بسهولة، لأنه يجعل للسنوات الضائعة معنى، وكأنه يحاول بهذا الخطاب أن يقول غن سنواته لم تكن ضائعة. يقنع نفسه بأن الفساد لا يقارن بالضربة الجوية، أما خطاب شد الحزام والمعاناة وطبقية المسؤول في تعامله معه فليست إلا ثمنا بسيطا لحماية مصر من خطر كان يمكن أن يحدث، بدون أن يتحدث عن الخطر الذي عرفته مصر وعرفه هو شخصيا لعقود، ولم يمنع خطاب الزيف من النجاة منه.
يتحول الزعيم إلى حالة مؤسسية – هيكلية في عالم الزيف المتنامي حوله، بموافقته أو بدونها ولكن بقبوله، وبهذا يهمش الشخص ويعظم المكان. صورة نقلتها مسرحية «الزعيم» للفنان عادل أمام بصورة واضحة، كما تكررت في أعمال فنية أخرى بصور مختلفة، حين يموت أو يختفي الزعيم الأصلي ويأتى «الشبيه» ليقوم بدوره وتستمر عجلة الزيف وسط التصفيق وشعارات المديح والأغاني المكررة، يتغير الشخص، ولكن تستقر كل الأوضاع حول الكراسي القائمة.
وفي وقت يسود فيه خطاب رفض الخطاب الإسلامي لما يحمله من مخاطر الخلط بين الدين والدولة، وتوظيف الدين لصالح أجندات سياسية باعتبار أنه الخطر الأكبر الذي ارتبط بمرحلة حكم محمد مرسي، لا تتوقف السلطة التنفيذية ولا الجهاز الإعلامي بتنوعه عن توظيف الدين والحديث عن الضمير والمحاسبة بعد الموت، بدلا من الحديث عن القانون والمحاسبة وقت الحكم، لأن الخطاب الاول أسهل في تقديمه وتسويقه واستقباله عن خطاب الانجازات. وبهذا يتكرر مشهد خروج المسؤول باكيا، كما حدث في مؤتمر شرم الشيخ، بدون أن تترجم تلك الدموع إلى تخفيف معاناة الناس على الأرض، ومع الوقت وسنوات المعاناة التي اختبرها المواطن والخطابات الرسمية المصحوبة بالدموع والوعود، تتحول إلى نوع آخر من الزيف المسرحي الطابع. ويتعمق الزيف عندما يحاول البعض إضفاء حالة الانسان الطبيعي على المسؤول، كما حدث مع المشير محمد حسين طنطاوي عند توليه رئاسة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وظهوره بما أطلق عليه البدلة المدنية، وهي صورة متكررة عبر الزمن لم تغادر مع الثورة، ولازالت تطل علينا في محاولة وضع المسؤول أحيانا على الأرض نفسها مع البشر العاديين، ولكنها محاولة تنقلب آثارها وتضر من روج لها ومن سعت إلى ترويجه في بعض الأحيان بدلا من تحقيق الغرض منها.
في الرواية يحلم البطل بأن يعمل مع الأطفال لأنهم لا يعرفون الزيف، ولكن رغبته تظل مجرد حلم، لا يبدو أن تحقيقه ممكن، وهو يتحرك في إطار الأسرة وطموحاتها في حياة مستقرة. وفي الواقع يظل حلم تخفيف حالة الزيف مطروحا ليس من أجل تحقيق اتساق ذاتي بين الفرد ونفسه فقط، ولكن لتحقيق اتساق المجتمع والدولة نفسها. وضع يحتاج إلى الكثير من المكاشفة والمصارحة والمحاسبة، ويحتاج كخطوة أولى إلى الاعتراف بدور ثورة يناير في ما يحدث من حالة كشف للزيف القائم داخلنا. زيف قد يكون مؤلما، والثورة في إطاره قد تكون أقرب لجراح لا يستطيع أن يعالج الألم بدون أن يسبب بعض الألم، ولكن العزاء أن ألم العلاج لا يفترض أن يستمر لعقود أخرى لا نعرف فيها حدود الزيف، الذي يجعلنا لا ندرك ما يفترض أن نحصل عليه بوصفه حقا، ولا نحاسب من يحصل على ما لا يستحق بوصفه فسادا. أما أن تعاملنا مع الواقع بكل أبجديات ما قبل يناير، وأخذنا من يناير ما يخدم تعظيم تلك الأبجديات، بما فيها تعظيم الحاكم والزيف، فربما يكون من نصيب رئيس مصري ما الترشيح من قبل البعض للحصول على لقب رئيس العالم ومحرر الحاضر والمستقبل، حيث تسقط أغنية «اخترناه» التي ارتبطت بفترة حكم مبارك، في مقابر الذاكرة لأنها لن تكون قادرة على وصف أمجاد الزعيم الجديد بما يستحقه. وبالطبع، لا يمكن أن نحكم في تلك الحالة أو غيرها على أوضاع البشر، لان حالة الزيف لا تقيم علاقة سببية بين رفع راية الحاكم عالية وتحسين حياة الناس في المحروسة.