ذكرياتٌ صغيرة عن "اتْوَيْمرَاتْ " الحاجيّة

أحد, 2015-03-29 14:09
عالي الدمين

اتْوَيْمرَاتْ، قريةٌ نائمة في الخلوةِ الأبديّة اللاّنهائية. قاطِنيها الأصفياء من منزِلة مادونَ الملائكةَ بقليلِ. تدورُ الأيّامُ بهم، في غفلةٍ عن تحوّلاتِها، وتقلُباتِها المرحليّة. دونَ أن يشعروا بدورانها العجيب ذاك، أو يعيشوهُ بوعيٍ حدثيّ تامٍ لاينفصلُ عن الحدَثِ الزمني/المكاني الكائِن، في تشكلاتِه وتمظهراتِه المُختلفة.
يقولُ روّاة حادثة التأسيسِ الأولى، أنّ مركز مدارَ الوقتِ فيها حالياً، وفي السابِق، العلاّمة الحاج فحفُ، حينَ عادَ من حجِّه الثنائي الغايَة: زيارة البيت الحرام، والتزّود بالعلم، حطَّ الرحالَ هُناكَ، في تلك الأرضِ وأعلَنها منزلاً مُباركاً لهُ، وكانَ في حجِّه رحالاً، مشّاءً على مدى السنونِ والشهور، كما هي عادُة الأوائلُ القُدماء. كانَ ذلك قبلَ أن يخلقَ الإنسان هذا الشيءُ الفضائي المُحلِّق، المُسمّى: الطائرة.
الأسطورة الحياتيّة الحاج، في رحلتِه الحجيّة الثنائيّة المقصَد تلك، مرّ بالسودان بدايةً، فحطَّ الرحالَ فيها، وأخذَ في طلبِ العِلم على رجالاتِها، حتى إذا ما أتمَّ تحصيلَ جميعَ ما في صُدورِهم، بدأ في استئنافِ رحلتِه من جديد. وهذه المرّة، وبعدَ أشهرٍ من التِرحال المُتِعب الشاق، سيحطُّ رحالُه، في أرضِ عدن باليمن، بلادُ الأجداد الملعونيين لعنة التعتيم واللاّذكر التشرفي، وفي اليمن، أخذَ الحاج في الحِراثة، سعياً لتحصيلِ الزاد التقوتيّ لرحلتِه الطويلة مُستقبلاً. وفيما بعدَ ذلك بأشهرٍ، حين تمَّ و أنتهى وقتُ القطعُ والحصاد، تابعَ رحلتَه، إلى أن دخلَ بلاد نجد، السعودية. حيثُ المكان المقصود و المرغوب منه، بوصلِه، ونفحاتِه الرحمانيّة.

اتْوَيْمراتْ قريَةٌ اللهِ وأهلِه، واللهُ يُحبُّها أشدَّ الحُبِّ. حتىَ في بدء الخليقة، حينَ كانت اللاّموجودة. كانَ يُحبُّها؛ ومركزُ مدار الوقت في اتْوَيْمراْتْ الآن، العلاّمة الحاج. من أهلِ الله وخاصتِه، وهذا ماتُبيِّنه القصة المرويّة عن والِده السالك. وهيَ أن الوالِد السالك حينَ خلّف ثلاثةَ أولاد. تنبأ بمصيرِهم الدنيويّ المُستقبلي. فقال أنّ أحدهم بالانتماء سيكونُ من أهل الحياة الدنيا فقط، وأحدهم الآخر سينتمي للهِ وحدَه. ولاشيء آخر. وكان ذلك الحاج. أما الثالِث الأخير، فلاهو من أهلِ الحياة الدنيا، ولا هو من أهلِ الله. إنه مجذوبٌ، تائهٌ. لايعرفُ أينَ، ولا إلى أين؛ والعجيبُ الغريب أن نبوءة الوالِد هذه حدثتْ فعلاً، كما تثبِتُ ذلك أغلبُ الجِهات المُقربة من هُناك. فقد حدث ما تنبأ به مع أولادِه الثلاثة، في توافق قدريّ يبعث على الحيرة!

قبلَ سنوات عديدة، حينما كُنتَ قاصِداً "اتْوَيْمراتْ" لأوّل مرة، بُغية التحصيلِ، قبلَ أن تطأ قدمايَ تلك الأرض. شعرتُ بشعورٍ غريب مُختلِف. وهو شعورٌ غامِض، لا أستطيعُ تفسيرَه تفسيراً بيناً. بقدرِ ما أستطيعُ تقريبَه بالتشبيهِ. كالقولِ عنه أنه كشعور العودة للماضي المُنير، بعدَ أن كان الحنينُ إليه قد غلبَ وطغَى. هذا، مع القولِ أنني كنتُ قبل البدء في السفر إليها، أسمعُ عنها، وعن صاحِبها العجيب، العلاّمة الحاج. مايُرَغبُّ الفرد بدون تفكيرٍ واعٍ في المُغامرة الجنونية، بالسفرِ إليه في قريتِه البعيدة، الكائنَة في قعر "تكَانت" وراء أبرز قمَم جبال آفطوط العالية، والشديدة الإنحناء والتمدّد.
إن ذلك الشعور الأوّل، الذي شعرتُ به بداية التفكير في السفر إلى هُناك، و لازمني شهوراً طويلة، لايختلفُ كثيراً عن الشعورِ الذي شعرتُ به بداية وقوفِ سيارة "تويتاه اللاّندكريز" لسائقها الماهِر " الدّان" الخاصة بالنقل إلى القرية وعنها، فوقَ مقطع " ازْرَيْمــّايَه " الصخريّ المُخيف. وهو شعورٌ يُقارب معنى ضريبة المُغامرة السندبادية الواجبة التحقق. كشرط ضروريّ لابدَّ من حصولِه.

ومقطع "ازْرَيْمــّايَه" الصخري الجبلي الطريقي هذا، كفيلٌ ببعثِ ذلك الشعور في نفسِ السائرِ فوقَه، خاصةً إن كان الوقتُ ليلاً. كماهو الحالُ الحاصلُ معي آنذاك. وذلك لأنه عويصٌ المسلك، شديد الوعورَة، لدرجة أنّ سائق السيّارة فوقَه لابدَّ أن يكون ماهِراً في السياقة، وعلى درجةٍ عاليّة من الفطنة تجعله يتجنّب المزالق والحُفر الجبلية الخطيرة، التي بإمكانِها أن تقتله ومن في سيارته، إذا ماوقعَ فيها؛ إنّه من أخطر الطرق في البلاد عامّة. ومن قبلِه كان يستحيلُ الوصول للقرية في السيارة. لذلك كان لابُدَّ من اصلاحِه، والذي سيكلّف جهوداً جبّارة. تكلّف بها أحد أعيان المنطقة. عندما وفرَ الـ3000 عامِل للعمل على اصلاحِه وهو بعدٌ جبلٌ قائم. فكانوا لمدّة أشهرٍ طِوال يُوقِدون النّار الشديدة عليه ليلاً، حتى إذا حلَّ الصباح أعقبوا أثرها بالماء البارد، لكي يتسنّى لهم بذلك هدم تلك الأحجار الثقيلة المُتفرقة بمعاولِهم الحديديّة بشكلٍ هيّنٍ وسهل. ستكونُ نتيجتُه فيما بعد، الطريق في شكله اليوم. حيثُ أصبحت البرُوزات الحجرية السابقة مُسطحةً جميعاً، في شكلٍ يجعلها مُتساوية مع ظاهر الأرض الجبل دون إنحناءاتٍ وتفرعاتٍ مُعرقلة للطريق.

إنها قريةٌ صغيرة، وديعة في جميع لحظاتها. تُناسبُ منطقتُها الكائنة فيها أفضلية النزول الأوّل. من قبلِ الحاج العائد، من الشرق. وهي في كُل ذلك مُختلفة. وتحفُّ بها الجِبالُ، والغاباتُ الواديّة. من الجهات الأربع.
قاطنتُها طُلابٌ بجميعِهم، تقريباً. يسعونَ ليلَ نهار إلى تحصيلِ مُختلِف العلوم. في جميع الميادين. تُعينُهم في سبيلِ ذلك مكتباتُ القرية الثرية. في منزلِ الحاج نفسه، ومنزلُ يده اليُمني من بعدِه حدّمين. وهُنا، أعترفُ، بأنني على مدى فترتي التي قضيتُ هُناك، في تلك السنة والأربعة أشهر، لم أمارس النّظام التعليمي المُعتاد هُناك في شكله الدّائم المعروف إلا قليلاً. حين أخذتُ في الدوّام على تعلّمِ دروسِ في النحو والصرف، أيْ الآجرومية واللاّمية. هذا، إذْ أني كنتُ أمضي جُلَّ يومي تائهاً في مكتبتاتِ الأسرة هُناك، مابينَ دُررِ التراث وجواهِره، في الأدب، والتاريخ، واللّغة، والكلام، والفقه، ماجعلني أبدو حالةً شذوذية بالنسبة للبعض هُناكَ، كوني لم أجاريهِم، في السعي إلى نيلِ الإجارة المُعتمدة، والرجوع من هُناك إلى حيثُ المكان الذي قدمتُ منه بدايةً. ولكنني، عموماً كنتُ راضياً عن حالي، هُناك، وهذا ماساعدني عليه جوُّ الحريّة التام الذي يعيشُه الطلبة في القرية.

ولعلنيَّ الآن، لا أنسى أيّام الشتاء ذات البرد الغارس، والوسائل المعيشية المُتدنيّة والصعبة، على نحوٍ تقشفي عالٍ جداً. فالقرية الصغيرة، ذات نِظام شبه مشاعي ساذج، لكن في حالٍ يختلفُ عن حالِ غيرها، وهو ما تقتضيه ظروفَها الحياتية الشديدة التميّز.
وفي الفترة الزمنية التي قضيتُ هناك، كنتُ استيقظُ باكراً، في حوالي الرابعة فجراً، كما هو الحالُ مع مُعظم قاطنة القرية من الطُلاب. وكنتُ في ذلك الوقت المشهود الهادئ، أسعَى، بمعيّة البعض، إلى العمل على إشعال النّار في أعمدة حطب " أمجيج" سعياً للتدفئة علىها، وهي التي كُنا نُخصص أيّام العُطلة الإسبوعية لجلبِها من وراء الجبال البعيدة، حيثُ القرود المُزعجة، والغابات العجيبة الغنية بالأشجار والأثمار؛ وعندَ طلوعِ الشمسِ، كان مُعظم الجميع يذهبُ إلى الكهوف الجبلية البديعة الحفر القريبة من حيِّ القرية. فيتدارسون هناك، ويتذاكرون، بل ويمرحون، ذاتَ لحظاتٍ ترفيهية مقطوعة التوقيت في تخصيصها الحُرّ.

مُشكلة اتْوَيمراتْ الوحيدة، بنظري، أنّها كانت آنذاك قرية ذكورية بامتياز، تنعدمُ فيها الأنثى، بشكلٍ مُلاحظ، رغم أنّ هنالك بعض النسوة اللاّتي يُذكرنَ على مُقدّمات الأصابع، وذلك كان لايكفي بالنّسبة لنا معشر طُلاب المعنى العميق، بدايةً ونهايةً. ولكنَّ حسناتَ اتْويمراتْ، بالنسبة لي، كانت كثيرة جداً. ولايُمكنُ حصرها. فمع أنّها صرحٌ محليّ ثقافي، تاريخي، يعود تاريخه لأكثر من الـ250 سنة، ويتوافد عليه الجميع، من الدّاخلِ، والخارج العالمي. فهي أيضاً تتميّز، بطبيعتِها الساحِرة، وأجواء مناخِها الجيّدة، ولعلَّ مركز مدار الوقتِ فيها: العلامة الحاج فحفُ. هو أكبر قيمةٍ فيها، إنه عالم متمكن، وواسع المعارف، وراسخ القدم في النّظر، ويبلغُ درجةً من الزهدِ في أشياءِ الحياة التافهة العديمة القيمة، قلَّ بالغوها، في زمننا، من عُلماء السلطة، والفضائيات البصرية، والجمعيات النفطية. اللّذائذيون، التبريريون!
كما أن من الإيجابيات الكبيرة، لتلك القرية. أنّها جعلتني، أتعرّفُ على شيخنا عبد الدّايم رفيق الحاج ، الموصولِ بالمعنى عن قُربٍ. فأناقِشه. وأستمعُ إليه. وأدرسُ عليه، في حلقاتِ المعرفة التي كُنّا نعقدها في عريشِه المُتواضِع هُناك، صُحبة بعض التائهين، في دهاليزِ السرّ/المعنى.

نقلا عن مدونة الكاتب.