دار الزمان دورته الكاملة، وثبت أن مصر عبد الناصر كانت على حق بتدخلها العسكري في اليمن، انتصارا لثورته ضد الحكم الإمامى الغارق في التخلف باسم الدين.
وكانت السعودية وقتها ضد التدخل المصري، وكان ذلك مفهوما، فقد كان عبد الناصر يقود وقتها ثورة عربية عارمة ضد الرجعيات العربية، وبذل الحكم السعودي ما في وسعه لإحباط الدور المصري، لكن الجمهورية اليمنية الوليدة انتصرت في النهاية، وفكت حصار الملكيين الطويل حول صنعاء، وجددت الجمهورية شبابها بعد وفاة القائد عبد الناصر، وشهدت اليمن طفرة تحديث كبرى مع حكم إبراهيم الحمدي، الذي لم يستمر سوى ثلاث سنوات، جرى بعدها اغتياله، ثم إحباط آخر ثورة الناصريين اليمنيين في أكتوبر 1978، وإعدام القادة الثوريين للجمهورية المتعثرة، وبدء حكم الشاويش علي عبد الله صالح بمباركة ودعم سعودي وبدفاتر شيكات مفتوحة، ثم تحطيم حيوية وتجانس المجتمع اليمني، الذي لم يعرف أبدا خلافا ولا صداما دينيا بين الغالبية من الشوافع والأقلية من الزيود، فالشافعية مذهب سني متفتح، والزيدية أقرب مذاهب آل البيت إلى السنة، لكن كثافة التدخل التخريبي في اليمن، وعمليات شراء الذمم والولاءات، أدخلت المجتمع اليمني في حال فشل وتمزق ومتاهة، وبالتوازي مع تحويل اليمن إلى دولة فاشلة، فقد جرى «تسليف» أبناء المذهب الشافعي، وتحويل المذهب الغالب إلى سلفية وهابية مغلقة، تكاثرت على أطرافها حركات السلفيين والإخوان وصولا إلى «القاعدة» و«داعش»، فيما جرى «تشييع» المذهب الزيدي، بدعم إيراني هائل، وتنمية ظاهرة «البيت الحوثي» في أوساط الزيدية، والسعي إلى إمامية جديدة وراثية «إثني عشرية» هذه المرة، وبدء سلسلة حروب طائفية قبلية انطلاقا من «صعدة» مركز الحوثيين، الموالين لإيران، إلى أن جرى إحباط الثورة الشعبية اليمنية الجديدة في 2011، وخلق وضع شاذ بما سمي «نصوص المبادرة الخليجية»، التي استبقت الحصانة والوجود المؤثر والسرقات بعشرات المليارات لعلي عبد الله صالح، وتركت الرئاسة الانتقالية لنائبه المهزوز عبد ربه منصور هادي، وتركت لأتباع صالح نصف عضوية البرلمان ونصف الحكومة، إضافة لأقسام غالبة من الجيش الموزع قبائليا وطائفيا وجهويا، إضافة للسيطرة المتفشــية لعائلة صالح على الموارد الطبيعية لليمن ومؤسساته الإدارية الهشة، واختلاط عسكر الجيش بميليشيات الحوثيين والقاعدة والإخوان والحراك الجنوبي، بما انتهى باليمن إلى تحطيم كامل للدولة، وهو ما شجع الحوثيين على نقل البندقية من كتف إلى كتف، والتحالف مع غريمهم السابق علي عبد الله صالح، المنتمي بالمولد إلى الطائفة الزيدية، وخوض حرب شراء ولاءات سهلة جدا في البيئة اليمنية المتهتكة، لعبت فيها إيران دورا مركزيا، حاصر الدور السعودي ودفاتر شيكاته، وخلق وضعا خطيرا يهدد بقاء المملكة السعودية نفسها، وهو ما دفع السعودية إلى إلقاء الكارت الأخير، وشن حرب جوية لتفكيك شبكة الحوثيين المتحالفين مع علي صالح رجل السعودية السابق.
تلك هي الصورة اليمنية باختصار غير مخل، التي خلقت المفارقة الراهنة في حرب اليمن الجديدة، فالسعودية التي وقفت وناهضت تدخل القاهرة العسكري في اليمن قبل أكثر من خمسين سنة، هي ذاتها السعودية التي بادرت بالتدخل العسكري الآن، وسعت إلى عون مصري عسكري مؤثر يقلب الموازين، ولم تتردد القاهرة هذه المرة أيضا في التدخل، ونشر قواتها الجوية والبحرية، ومع استبعاد التدخل البري، فالدور المصري أيام عبد الناصر كان الفاعل الأول في بناء الدولة اليمنية، ومع غياب الدور المصري عربيا، وبالذات بعد توقيع معاهدة العار المعروفة باسم «معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية» عام 1979، تآكلت الدولة اليمنية بحسها الجمهوري الحديث، وتحولت إلى مخزن صدامات وطوائف متنافرة، تغير ولاءاتها بحسب نوع دفاتر الشيكات، وتتحول إلى دولة فاشلة، تتنكر لميراث الحكمة اليمنية، وللتجانس الفريد الذي كان عليه أهلها، ولضم الجنوب إلى الشمال في دولة موحدة، وكما كانت مصر عبد الناصر هي النصير الأقدر للجمهورية اليمنية في الشمال، فقد كانت هي أيضا قوة الدفع الأعظم في حرب تحرير الجنوب من الاستعمار البريطاني، لكن انهيارات مصر بعد حرب أكتوبر 1973، غلت يد الدور المصري، وجعلت صورته المتألقة شيئا من ذكريات التاريخ، تحفظها الطبقة اليمنية المثقفة باعتزاز عظيم، وتتذكر دم الشهداء المصريين الذي أهدروا بركته، وإلى أن قامت ثورة 25 يناير 2011 في مصر، وحققت نصرها الأول بخلع مبارك في 11 فبراير 2011، وكانت المصادفة البليغة عنوانا على رغبة عميقة في اليقظة بعد اتصال الركود لعقود، فقد بدأت الثورة الشعبية اليمنية في يوم خلع مبارك نفسه، وكما كانت الثورة المصرية الشعبية، وموجتها الأعظم في 30 يونيو 2013، تجهد لوصل ما انقطع مع الثورة المصرية الأم في 23 يوليو 1952، كانت الثورة اليمنية أيضا تحاول وصل ما انقطع مع ثورة اليمن الأم في 26 سبتمبر 1962، مع وعي عميق بفوارق الزمن والظروف، فقد مضى زمن ثورات الضباط الأحرار، وحـــل زمن ثورات الناس الأحرار، التي تواجه هــــذه المرة بتعقـــيدات شائـــكة متشابكة، بينها إمكانية الانقلاب عليها وتزييف وعي جمهورها، والنمو السرطـــاني لتيارات اليمين الديني الطائفـــية المتخلفة، التي تلعب على وتــــر افتــعال حروب الســـنة والشيعة، وهـــي ذاتها سياسة الاستعمار القديمة الجديدة، القائمة على مبدأ «فرق تســـد»، وبهدف التدمير الذاتي للأديان والأوطان، وتلقى هــوى ودعما في نظم حكم قائمة على الجانبين الإيراني والعربي الخليجي، وهو ما قد يصح أن يتنزه عنه الدور المصري، الذي يتلمس خطاه الجديدة الآن على الساحة العـــربية بعد غياب طويل، فمصر ليست بلد طوائف ولا مذهبيات ضيقة متخلفة، وما يحركها هو الحس القومي العربي، الذي لا ينفصل عن معركة استرداد الإسلام من يد جماعات اليمين الديني الإرهابي المتخلف، وأيا ما كانت عناوينها الطائفية، وادعاءاتها السنية أو الشيعية.
نعم، ما يحرك مصر هو العنوان القومي العربي، فمصرية مصر هي ذاتها عروبة مصر بالنص والحرف، ودائرة الأمن المصري هي دائرة الأمن العربي ذاته، وحين تدعو مصر لحلف عسكري عربي وقوة عربية مشتركة، فهي تدرك غريزيا ما يجرى من تحولات متسارعة في المنطقة، فثمة خوار محسوس في الدور الأمريكي، وثمة تراجع في ثقة الأطراف الخليجية بجدوى التعويل على القوة الأمريكية وتابعها «التركي»، وثمة توحش في الدور الإيراني، وهو ما يبرز الحاجة إلى دور مصري وازن، خاصة مع الجهد الدائب في تقوية الجيش المصري، واسترداده لمواقعه المتقدمة على حافة الحدود المصرية الفلسطينية التاريخية، وإنهائه لمناطق نزع سلاح سيناء المترتبة على المعاهدة المصرية الإسرائيلية، وتقليص ميراث التبعية لواشنطن، وتطوير المقدرة الدفاعية والهجومية للجيش المصري بانفتاحات السلاح على روسيا والصين، وكل ذلك مما يؤهل مصر تدريجيا لاستعادة دورها المغيب، ويفسر استجابة القاهرة السريعة لطلب السعودية بالتدخل في اليمن، وضمن سياق وائتلاف عربي واسع نسبيا، يكاد يرسم ملامح «بروفة» الفكرة المصرية الداعية لإنشاء حلف عسكري عربي، ثم أن دور مصر بالذات هو الذي يرفع الصفة الطائفية المقيتة عن التدخل في اليمن، فمصر تدافع عن مصالحها المباشرة حين تذهب إلى اليمن، وتطور التكامل الوظيفي المستهدف بين فوائض القوة العسكرية المصرية وفوائض المال الخليجي، وتصوب عملية إنقاذ اليمن، فليست لمصر مصلحة ولا هوى في العداء مع أي طرف يمني داخلي، بل تريد استعادة اليمن بكامله لأولوية عروبته، وحفظ وحدة ترابه وناسه، واستعادة تجانسه الثقافي الفريد، وإعادة بناء مؤسسات الدولة اليمنية الحديثة، وهذا ما أتصور أن تكون السياسة المصرية واضحة قاطعة فيه، منعا لاختلاط الأوراق، فالقاهرة هي التي وضعت حجر الأساس للجمهورية اليمنية زمن جمال عبد الناصر، ودورها الجديد هو وصل ما انقطع، وبدون تدخل ولا تحيز لطرف على حساب آخر في تفاعلات اليمن الداخلية.
لا نريد دمارا مضافا في اليمن، بل نريد فتح الطرق لإعادة بناء دولة اليمنيين وجيشهم الوطني وجمهوريتهم الموحدة.