محمد السيد سعيد النبيل الذي لا يغيب

اثنين, 2014-10-20 22:01
عبير ياسين

ظلت تلك المساحة مرتبطة دوما بالتطورات المصرية، وما تواجهه الثورة من تحديات، والعدالة من صعوبات، وما تعنيه الأوضاع من فرص أو قيود بالنسبة للمواطن وحريته وحقه في العدالة الاجتماعية، والكرامة التي لا تتجزأ، والحقوق التي لا تقبل المساومة. 
ظلت الكلمات في مساحة بين الحدث والمعنى، والوطن والإنسان، والقيمة المفترضة والظرف المعاش. ظلت ما بين الواقع بتحدياته والحلم بجماله المنتظر لوطن يستحق. ولهذا فإن تلك المساحة نفسها تجد من الضروري أن تقترب من إنسان نبيل مثّل جزءا من الحلم دافع عنه طوال حياته، وظلت كتاباته وأفكاره المكتوبة والمتوارثة والمجسدة في مؤسسات وهيئات وصحف ومراكز حقوقية وجماعات بحثية، جزءا من الحلم الممتد مثل صاحبة، قد يتوارى لكنه لا يغيب، فهو حبة القمح التي ماتت كي تخضر ثانية، وهو السنبلة التي جفت ولكنها بالموت تملأ الوادي سنابل على طريقة محمود درويش.
مات الأستاذ النبيل الدكتور محمد السيد سعيد، الباحث، الصحافي، المفكر الموسوعي، العالم، الانسان الحالم في 10 أكتوبر عام 2009، ولكنه كان بمفرده فعل ثورة وتمرد ورفض، وفي كلماته وأفكارة وحضوره الإنساني تألق الحلم والحياة والجمال الإنساني الذي يعنيه الوطن بصدق.. كان بأفكاره جزءا من الحلم، وبشخصه جزءا عزيز من الوطن.
تركنا محمد السيد سعيد بعد أن ترك الكثير من الأفكار عن الوطن والإنسان والحقوق والحريات، تركنا وترك الذكرى التي لا تغيب على طريقة غسان كنفاني، وهو يؤكد أن الموت يوجع الباقين، ولكن العزاء أن ما تركه يتجاوز اللحظة والفرد للمستقبل والوطن. تركنا وترك الأفكار التي لا تتوقف عن التحليق وهي تؤكد قيمة الوطن، وفي القلب منه ميدان التحرير، رمز الحركة والسيطرة الجماهيرية.. أو كما كتب في 2008 وقبل الثورة بسنوات عن ميدان التحرير، أن الشعب يحكمه تماما عندما يقرر ذلك، «ويقرر الشعب دوريا السيطرة التامة على الميدان، وعندها لا تستطيع آلة القمع البوليسية، بل جهاز الدولة كله، إلا الابتعاد وترك الميدان كلية»، في استحضار مبكر لمشهد الجماهير الثائرة في الميدان في يناير 2011. تركنا وهو يؤكد على الحرية والعدالة وسيادة القانون الذي يطبق على الجميع بدون استثناء وبدون تحديد للأسماء والهويات والانتماءات السياسية أو المكانة الاجتماعية، فالقانون جزء أساسي من الوطن الحر ومن الكرامة. كان يساريا كما يؤكد الجميع، ولكنه كان أكثر اتساعا من اليسار وأكثر ليبرالية من الليبراليين، وكان في كل هذا قادرا على توجيه النقد للأفكار والممارسات، باحثا عن الانسان في معناه الأعمق والأشمل.
أتذكر هذا اليوم البعيد وهو يتحدث في أحد المؤتمرات عن البرنامج النووي المصري، عندما طرح بقوة على الأجندة المصرية قبل أن يهدأ ويعود مرات أخرى للظهور والغياب على طريقة الاستخدام الدعائي، كان يتحدث عن أولويات الوطن، وكيف أن التعليم والصحة والسكن كلها أمور جديرة بالاهتمام، وان تكون أولوية المرحلة قبل أن يقاطعه أحد الحضور غاضبا وهو يتحدث عن المكانة والتوازنات الإقليمية وصورة مصر العالمية .. وكان رده الهادئ مقارنة برد فعل المتحدث الغاضب، مؤكدا اختلاف القراءة واحترام القيمة الانسانية، لأنه لم يكن ممن يحتكر العلم والمعرفة، وكان يرى أن الأفكار مجال نقاش، من دون أن يقلل من قيمة أحد أو يتعامل بناء على مكانة مفترضة له أو لغيره.. بالطبع مرت السنوات ولم يتحسن التعليم والسكن ولم تتغير الموازين الإقليمية والدولية لصالح مصر، ولم يتم تنفيذ البرنامج النووي، ولم تنه الثورة الجدل المستمر عن الوطن. واقع لا يتغير، فما أسهل ان ترمي حجر فكرة كبرى في مياه الوطن الراكدة لتبدو وكأنها تتحرك وتموج بالتفاعلات قبل ان تكتشف ان الحمل كاذب والحركة كلام لا يبني وطنا ولا يصلح أحوال مواطن.
وعندما تحدثنا عن سجن أبو غريب وما يحدث فيه من تعذيب، كان تعليقه من واقع الحياة المصرية، بكتاب صادر من مركز من المراكز الحقوقية عن التعذيب في السجون المصرية. كان لسان حال اللحظة ان انتهاك الخارج لنا ليس إلا امتدادا لانتهاك ذاتي يمارس على الانسان المصري أو العربي في وطنه وبيد أبناء الوطن، وعندما تهون الكرامة تهان، وعندما تهان الكرامة يهان الوطن ويخترق. لا يدرك البعض أن الحرية والعدالة والكرامة هي ركائز البقاء ويخيل لهم أن القمع والعنف والإهانة هي وحدها القادرة على الحفاظ على كراسي الحكم، حتى بعد أن تهتز كراسي البعض وتسقط بهم، كما حدث في الثورات العربية، يدافع البعض على الحاجة للمزيد من القمع والسيطرة بدلا من إدراك الرسالة التي صرخت بها الجماهير الثائرة عن العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. قد تتراجع الأوضاع أحيانا، لكن الحلم قادم يوما مهما غاب خلف غيوم الواقع.
لم أسمعه يوما متحدثا عن معاركه الذاتية، عن سجنه وتعذيبه في السبعينات والثمانينات من أجل مواقف كان وظل مقتنعا بها.. أشياء يمكن أن تقرأ وتسمع عنها من غيره فهي حاضرة وموثقه في الكثير من الكتابات، بما فيها كتابات لمن عاصر فترة سجنه وتعذيبه ومن كان معه في السجن.. وعندما واجه الرئيس الأسبق مبارك عام 2005 وقبل أن تهتز سلطته، كانت الأوضاع مختلفه، لان الحدث كان حاضرا في أحاديث الجميع، ولكنه لم يتحدث عنه إلا بعد فترة، خلال لقاء صحافي عما دار في اللقاء وما تعرض له بعده من مضايقات، بما فيها منع مشاركته في لقاءات معرض الكتاب في العام نفسه. حدث يسهل لغيره المتاجرة به ولكنه كان عفيفا لا يتاجر بما يخصه وربما كان واثقا من أن الكلمات لها أجنحه كما أنها تعيش أعمارا فوق أعمار أصحابها، على عكس أفعال الظلم والقمع. 
لازالت الصورة حاضرة حين تواجه الفكرة بالحبس والسجن والأسوار فتجد في شق جدار بصيص نور ومساحة تحليق أبدية.. نحتفل بالحرية والإنسان والكلمة الحرة وصاحبها ولا نتذكر السجان إلا في مرور عابر على تاريخ قمع الانسان للإنسان وللأوطان.
كان ولازال لدي دوما تساؤلاتي عن كل ما أطلق عليه الدعاة الجدد، وعن كل ما يحدث باسم الدين من تحويل العبادة إلى أرقام، وكنا نتحدث يوما عن تلك الفكرة وكيف تقدم العلاقة مع الخالق بوصفها عداد حسنات، فتحدث عن الإطار التنظيري للواقع، وكيف يتم تقليص المعنى الروحي مقابل الحساب المادي، وأن هذا يتسع في الكثير من صور الحياة التي تتحول إلى واقع مادي.. استمرت التأملات في الحوار القصير الذي قطعه وجود التزامات أخرى له، ولكن ألا تتحرك كل الأشياء حولنا في إطار أقرب لحسابات البنك، كم تملك من أموال، وكم ستكسب من حسنات.. كم لديك من أصدقاء على وسائل التواصل الاجتماعي، وكم شخصا يتبع ما تقول ويعجب به. ألا تتحول الحياة أكثر وأكثر إلى أرقام بلا معنى ولا روح.. ألا يبحث البعض بشكل متزايد عن مكاسب اللحظة الرقمية حتى ان كانت على حساب الغير أو الوطن نفسه!
قد يفتقد البعض المفكر، أو العالم الموسوعي، أو الدكتور الباحث محمد السيد سعيد.. ولكن الافتقاد الأكبر هو الانسان الحالم بنظراته التي تخترق اللحظة وتمتد في الحديث للأفق وكأنه يكتسب منها الأمل الذي يغذي الحلم في عالم أفضل وأوطان أفضل للإنسان.. أفتقده بأكثر من الكلمات التي تركها وتظل حاضره دوما.. أفتقد الكلمات التي لم تقل والأحلام التي ظلت حبيسة جدران النفس، والسعادة التي انتظرت تحرر الأوطان، ولكنها غادرت وهي متمسكه بالحلم. نعم أفتقد الوجود ولكن الحضور لا يغيب كالوطن وكل الأشياء الجميلة التي ترتبط به في الذاكرة ونحتضنها قريبة في داخلنا كالوطن المنتظر.. أفتقده رغم الحضور، وهو حاضر رغم الغياب.