يقول الشاعر والأديب السوري محمد الماغوط، إن «أسوا ديمقراطية أفضل من أعدل ديكتاتور،» ولكن تلك المقولة والمعاني التي يقصدها لا تصل إلينا، وإن وصلت لا يتم الاستماع إليها، في ظل خطاب الحرب على الإرهاب وشقيقه خطاب الزعيم المسيطر على المرحلة.
هذا الخطاب الذي يستمر في الوجود بصفة عامة، ويتصاعد في أوقات معينة، يبدو واضحا وسط الجدل المتجدد حول موعد الانتخابات البرلمانية، جدل يجد فرصته الآن بعد مرحلة اختبار واضحة لسيطرة السلطة التنفيذية منفردة وعلى رأسها رئيس الدولة، عبد الفتاح السيسي، الذي أثبت بالنسبة لكل من يؤيده، أنه يتجاوز بقدراته وحكمته منصب الرئيس، وأنه يتفرد بالزعامة ولا يحتاج إلى صوت أو استشارة غيره.
والأكثر أهمية من مرحلة تفرد السلطة التنفيذية بالقرار، وكما تبرز من التصريحات الخاصة بالانتخابات البرلمانية وحديث تعديل الدستور، أن الرئيس لا يحتاج إلى ما يقيد سلطاته، حتى إن كان المقصود بهذا التقييد إجراء انتخابات برلمانية، ظلت تقدم بوصفها جزءا مهما من خريطة الطريق المطروحة، بعد الرئيس الأسبق محمد مرسي، كآلية للتحول الديمقراطي المفترض، وفي تجاوز لحقيقة أن الانتخابات يفترض بها أن تكون تعبيرا عن الجماهير. تلك الجماهير التي تقدم بوصفها الكتلة الصلبة التي يعتمد عليها الرئيس في تحركه - كما يؤكد في أحاديثه- في حين لا يتجاوز دورهم الحقيقي - كما يبدو- مرحلة التفويض والقبول الصامت بما يحدث، حين تتحول كل التحركات المباشرة وغير المباشرة إلى نوع من التفويض للرئيس، وتأكيد لفشل الخبراء في قراءة علاقة الرئيس بالشعب، مع التعميم الواجب في تلك المرحلة عن الملايين المؤيدة والمفوضة.
تثير تلك الحالات العديد من التساؤلات حول حالة الديمقراطية القائمة، ومدى الرغبة في الحفاظ على شكلها الإجرائي، مقابل جهود محاربتها والأصوات التي ترغب في دفنها سريعا، وتستعد بكل فخر للمشاركة في إعلان المسؤولية عن حالة الوفاة الناتجة من الضغط والتخطيط وتفعيل خطاب المرحلة، الممثل في الحرب وقيادة الضرورة، كما تسارع وتؤكد في كل مناسبة على جهودها لإفشال ثورة 25 يناير وكل من شارك فيها.
وعلى الرغم من أن البعض يرى أن المؤتمر الاقتصادي دشن لتغيير توصيف الرئيس - بالنسبة لهم- من رئيس الضرورة إلى رئيس الاختيار، فإن تحديد مفهوم الاختيار غير واضح، فهل يقصد به اختيار القوى التي شاركت في المؤتمر، أم الشعب بما فيه المجموعة التي لم تشارك في الاختيار من البداية، أو عموم الشعب الذي تتكاتف عليه الاعباء ويحيط به خطاب المعاناة والتقشف وشد الحزام. وإن كان خطاب القوى أو الدول التي شاركت، فربما تكون شاركت بحكم الضرورة والواقع، أما الشعب فمن الصعب أن يكون الحكم على موقفه لشخص واحد يقرر في تحليلاته تلك التعميمات، في حين تغيب صناديق الانتخاب أو استطلاعات الرأي العام، التي يمكن الاعتماد عليها في بناء تلك التصورات القطعية.
لا تبدو الصورة فعليا واضحة في الحديث عن الاختيار هنا، ولكن أيا ما كان المفهوم، يسارع البعض لتأكيد أن ضرورات المرحلة تقتضي تقليص فرص الاختيار أمام المواطن في السياسة، كما في غيرها من أبعاد الواقع المعيشي الذي يقلص اختياراته بحكم قرارات فوقية عادة تراعي أصحاب المال ولا تراعي عموم الشعب.
المواطن لا يظهر فعليا في المشهد بوصفه فاعلا فهو مفعول به، في معظم الأحيان يتم التعامل معه بوصفه متفرجا على ما يحدث، وإن استمر في دفع الأثمان دوما. أفكار تبدو واضحة بداية من حديث الدكتور علي السلمي، نائب رئيس الوزراء الأسبق، عن ضرورة تعديل الدستور، لأن المرحلة تحتاج إلى توازن سلطات بين الرئيس والبرلمان، تحمل بالمعنى توسيع سلطات الرئيس، مرورا بتصريحات المستشارة تهاني الجبالي، النائب الأسبق لرئيس المحكمة الدستورية العليا، عن ضرورة تأجيل الانتخابات البرلمانية لمدة عامين على الأقل «لحين الخروج من حالة الحرب» التي تعيشها مصر.
تبدو تصريحات الجبالي واضحة في الحديث عن مخاطر تقييد البرلمان للرئيس، والاشارة بالاسم إلى السيسي من خلال حديثها عن مخاطر تطويق الرئيس، بما يمثل خطرا كبيرا عليه، حيث أشارت إلى مخاطر سيطرة رجال الأعمال والرأسماليين على البرلمان، مؤكدة أنهم في تلك الحالة «يمكن أن يأتوا بالرئيس ليملوا عليه ما يريدونه، ويقولون له إفعل كذا ولا تفعل كذا، وهم في الحقيــــقة لن يتورعوا عن ذلك، وهنا يمكن أن نرى أن الخطر يحيط بالسيسي نفسه».
ولأن المواطن واختياره أمر ثانوي فإن الاقتراح المقدم يركز على أن تتم انتخابات داخلية في كل جهة، مع تعيينات من الرئيس لتشكيل برلمان مؤقت، دوره الأساسى هو وضع دستور جديد، دستور ربما يتماشى مع تصور ضرورة تعظيم دور الرئيس، لأن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، خاصة أن المقولة من شأنها أن تعيد ذكريات عبد الناصر، الذي يشكل جزءا من أسطورة الشرعية أو البطولة المطلوبة للمرحلة الحالية، حتى إن كانت المرحلة التي مثلها، بالكثير من سلبياتها، غير مطلوبة للوطن أو المواطن. وبهذا تقدم اقتراحات توسيع سلطات الرئيس أو إطلاق يده، مرة بالخوف من وصول الإخوان أو الإسلاميين إلى البرلمان، ومرة بالخوف من أن يفرض البرلمان قراراته على الرئيس فيقيد سلطاته.
يستكمل الخطاب الدائر عن الزعيم ومخاطر تقييده، حتى إن كان التقييد المفترض يتماشى مع الديمقراطية المطلوب تسويقها للخارج، الذي يدور الحديث عن الاستقلالية عنه مرة وعن قبوله بما يحدث داخليا مرات، الكثير من مظاهر الشرعية المراد تعظيمها والعديد من الصور التي حرص النظام على رسمها ليقترب من كل ما يراه عظيما على مر التاريخ.
وبعد محاولات البعض تقريب فكرة الضربة الجوية ومعركة أكتوبر 1973 بما حدث في رابعة العدوية، بوصفها حربا أخرى ومعركة مصيرية وتحريرا آخر للوطن، بدأنا في محاولات الرئيس تقريب ثورة 25 يناير وما تلاها في 30 يونيو من ثورة 23 يوليو، والحديث عن يناير ويونيو، بوصفهما خطا ممتدا واستكمالا لثورة يوليو المجيدة، التي قام بها الجيش. أما السد العالي الذي حمى مصر من الفيضانات والجفاف وقناة السويس، التي ساعدت في تنمية الاقتصاد المصري وزيادة القيمة الإستراتيجية، فقد تقاطع معها خطاب قناة السويس الجديدة، التي قدمت بوصفها مشروعا قوميا يتساوى مع قيمة السد العالي نفسه، أو القناة الأساسية، أو يضيف لها الكثير من القيمة، بعيدا عن كل الجدل الدائر حول حقيقة هذا التصور. وفي النهاية جاء الاقتراب من القاهرة نفسها، العاصمة المعروفة بكل ما تمثله من قيمة ومكانة، في حديث غير مكتمل عن عاصمة جديدة أو عاصمة إدارية جديدة.
يبدو أن النظام لا يتوقف عن محاولات إنتاج شرعية وتاريخ من الإنجازات الشرعية، وإنجازات تتحدى التاريخ نفسه، بكل ما فيه من رموز وشرعية وانجازات مادية ورمزية، وتعيد إنتاج مقولاته ومشاريعه. ولكن صورة إعادة إنتاج الزعيم التي حاول البعض التركيز عليها بعد 30 يونيو، وبشكل خاص مع الانتخابات الرئاسية ممثلة في عبد الناصر لا تبدو كافية، فهناك محاولة دائمة لتجاوز الزعيم نفسه عبر المزيد من تحدي الانجازات والمقولات والزعامات لتشكيل زعامة كبرى عابرة للزعامات التاريخية ومجمعة لانجازات الجميع عبر التاريخ.
وإن كانت مقولات وانجازات الزعامة مستمرة في التجديد، فإن الشيء المتماسك لدى العرب منذ بدء الخليقة هو القهر كما قال الماغوط، وبهذا يخاف البعض من الإصلاح والديمقراطية، ليس لأنها ستقلص دور الحاكم في مرحلة الحرب فقط، ولكن لأنها ستضع قواعد لما يفترض أن تكون عليه الأشياء، وستعطي للبشر بعضا من القيمة المفترضة وستحولهم لفاعل يختلف قدره في الواقع القائم، ويملك أن يغير الأحداث، والأكثر أهمية انه سيتحول إلى رقم يتم وضعه في حسابات السلطة، وهي تفكر في إقامة انتخابات أو الغائها، وفي تعظيم زعامة أو تحجيمها، وفي تغيير عاصمة أو الابقاء عليها، وفي عقد اتفاق على مياه النيل أو التفاوض بشفافية، وفي دخول حرب من عدمه.