" الرفضُ كلمةٌ، والكلمةُ هي الوجودُ" مهدي عامِل.
تجري في الساحة الوطنية المحلية، حالياً، انتخابات اتحاد الأدباء والكُتاب المحليين الرئاسية، وهي بنظري، فرصةُ سانِحة، للتساؤل حولَ موضوعٍ هام، هو موضوع الثقافة، في صبغتِه المعرفية. والذي يُجسده هذا الاتحاد في حالتِه، كمؤسسةٍ حكومية رسمية تهتمُ بالثقافة، في شقِها الكتابي، بأنواعِه الشتّى. على مايُقال، أو لِنقل يُفترَضُ، كما هو الحالُ العام الشائع عن أمثالِ هذه المؤسسات في العالم!
والمُرادُ هنا، بتناولِ مثلِ هذا الموضوعِ، ليسَ تناولِه في كُلِّه، بقدرِما تسليط ضوء الاهتمامِ والتساؤل حول بعضِه، المُجَسَّدِ في حالة اتحادنا الوطني هذا. أيْ حقيقة الثقافة الرسمية المُمثِل لها، والتابعة للأجهزة المُتحكمة، في الحياة العامة. المُتصالحِة مع إيدلوجياتِها المُهيمنة، ونُظمِها المُتعاهدِ عليها كافةً. وهي في البداية ميزةُ هذه الثقافة المُتصالحِة. فتموضعها في الواقع الأرضي الصِراعي ضدَّ مُخالفيها، يتحدّد بقيمتِها، أي بمكانِها، و جهتِها الانتمائية. وهذه الثقافة، في المقام الأول، مرائية تُخادِع ذاتَها، وروّادها. على السّواء، فحالة الولاء التي تطبعُها بالكِامل، سارتْ بها، إلى هذه الحالة الزيفيّة، لتنفكَّ، فيما بعد، عن عامِل الاستقلالية الهام، الذي به تصبِح الثقافة في ميدانِ صراعِها ثقافةً حقيقيةً. والأهم هُنا أن تكون تلك الثقافة، في استقلاليتِها، ضد السلطة القائمة، بأشكالِها جمعاء. وعلى جميعِ المستوياتِ، سياسيةٍ كانت، أو دينية، أومجتمعية مختلطة...الخ
وهنا بالتالي، يصعبُ القولُ عن الثقافة الرسمية هذه، المُتصالحَة مع الواقع في شكلِه الجحيمي القائم. أنها ثقافة التزامية نِضالية، أيْ القولُ عنها أنَّ لها قضايا عادِلة تلتزمُ إزاءها، وتُناضِل من أجلِها، هذا، إذْ أنَّ كامِل التزامِها يكادُ يتجسّد في انحصارِها على بعض الولاءاتِ النكوصية مع السلطات السياسية المُجتمعية القائمة. بمُختلَف أشكالِها؛ وهذا يُحلينا، إلى نقطةٍ مُشابهةٍ لنقطة الاستقلالية، وهي نقطة الوعي الذاتي المُتحّرّر. والحقُ أن الاستقلالية، أيًّ استقلالية كانت نوعيتها، لاتحصل واقعياً إذا لم يسبِقها هذا الوعي الكامِل المُتحّرر، والذي يُشكِل في حالتِه بالنسبة لها هيَ رافداً تأسيسياً ضرورياً وهاماً جداً. لدرجة أن تلك الاستقلالية إنْ وُجدَتْ دونه، لاتستمُر طويلاً، في مُستقبلِها الملموس، أو حتى تكادُ لاتُكمِل حاضرها المُرتهن السائر مُتعثراً في نومِه.
ليسَ للثقافة الرسمية بأجهزتِها كافة غايات تغييرية ثورية تسعى لتجسيدها، فهي تنتمي للقوى الظلامية المُتحكمَة التي تسعى لتأبيد الواقع على شكلِه الكارثيّ القائم. ولكنَّ هذا لايعني أنها لاتسعى لغاياتٍ مُعينة، فهنالكَ غاياتٌ تسعى لتحقيقِها، ويُطلب منها تجسيدها، من طرف السلطة التابعة لها، بشكلٍ مُخجل وتبعي في الآن نفسه. لتُجسّدها عنذاك بولائية منفعاتيةٍ دنيئة. و الثقافة الرسمية، المُمأسسَة اليوم، في الدولة الحديثة هي كاهنُ السلطات الأبرز، الذي لامُهمّة له غير تزييف الوعي، أو تغييبِه حتى يصيرَ عدماً محضاً، لايُمارِس النّظر في الواقع المُعاش، أيْ بالتالي مامعناه. يصبِحُ خاوياً لايُهدّد بمُلاحظاتِه المُزعجة مكامِن سيطرة تلك السلطات على الواقع، ولايُشكِل عليها خطراً في الحاضر، ثم المُستقبل المُرتقب. هذا إذْ ذّاكَ يصبحُ من الضروري، تغيير سلاحِ تغييب الوعي وتحويل طريقتِه، من الخطابية الوعائظية إلى دعوى الاصلاح الكاذبة، أو من الإيدلوجيا إلى الترهيب الخفي أو الصريح!
والثقافة الرسمية، هذه الساعية إلى تأبيد الواقع وتجميدِه على حالِه الآني، خِدمةً لللسطات المُتحكمة، في جميع مناحي حياتِه، تلبسُ لبوس الصدق، والاصلاح البنّاء في الغالب، إن لم نقل في جميع الأحوال. وذلك شيءٌ لايخفى زيفُه. فالنّظر المُدقق للواقع، سعياً لتلمّس تلك الاصلاحات المُدّعاة، على مرِّ العقود من تاريخ تلك الثقافة الرسمية، لايجدُ غير العكسِ، أيْ الفساد ذاتَه، مازالَ موجوداً بانتشار.وهذه المرّة بالذات، نجدُ قبضتَه قد اشتدّت أكثر من ذي قبل، فأصبَح موجوداً بعلنية فاضحة، حتّى في مراكز تلك المواقع التي تدعي مُحاربتَه، والعمل على تغييرِه بضدّه. وهي ذاتها مواقع هذه الثقافة الرسمية المُمَأسسة، والتي أصبحت اليوم في ظلِّ الدولة الحديثة، تتوزّع في قنواتٍ ومجالاتٍ عدّة، لتلعبَ الدور الوظيفي نفسه، حيثُ خدمة تلك السلطات المُتعدّدة، وحراسة مكامِن هيمنتها وسطيرتِها. واليوم، نجدُ بعض المؤسسات الثقافية الرسمية المُجِسدة لهذه الحالة، في مُعظم البلدان، ويكفيني هُنا أنها تلعب الدّور نفسه، في حياتِنا، مُفتقرِةً لأيِّ قدرٍ من الاستقلالية في بنيتها التأيسيسة. هناك مثلاً:
1- وزارة الثقافة: وهي "رأسُ الحربة" هنا، كمايقولون. فعملية مأسسة الثقافة تأتي منها لتنتهي إليها، في حضنها الدّافئ، المتكئ الظهر على كُرسي الحاكِم، وهو في حالتنا الجنرال عزيز ونظامه القبائلي العسكراتي الفاسِد. ووزراة الثقافة هنا تلعبُ مهمة رعاية المشهد الثقافي والقيام عليه. وهي رعاية أبويّة في المقام الأول، تُحاول خلق حركةٍ ثقافية حسبَ المقاس المُسبّق الذي تطرحه كمؤسسة رسمية موكلة بهذا الجانب الخطير، هذا، لتكون النتجية بعد ذلك في الغالب، تجنيد تلك الثقافة في خدمة السلطات. وإن لم تكن في خدمتِها -وهي حالة نادرة- فإنها تكون في معزلٍ سكوتي عنها وعن مُمارساتها الفسادية، وهو نوعٌ من التعاون اللاّمعلن، فالصمت إزاء ظواهر الاستبداد والفساد الموجودة ضربٌ من المشاركة التواطئية الذي لايختلِف عن غيره من أنماط سلوك التجسيد الأخرى. ووزارة الثقافة في هذه الحالة، تقوم بالدور الذي أُسنِد عليها بالتمام والكمال، وهو تقليم أظافر تلك الثقافة المُتمردة داخلَ ذلك المشهد الثقافي العام، الساعية إلى تثويرِ الناس على واقعهم البائس من جميع الجهات. وتلك هي مهمة الثقافة الأولى، التي بها تتحدّد تحديداً صادقاً حقيقياً. ووزارة الثقافة، في غالبية الأحوال، عديمة الجدوى، وكثيرة المصائب. فهي لاتخدم الثقافة بقدر ما تقتلها، وتُنسِف مضمونها الحي. المُزعج، المُشاكس، المُتمرد، المُعارِض. ولعلنا إذا مانظرنا لتاريخ الحضارات والأمم المثقفة السالفة، قبلَ قرونٍ من الزمن، وجدنا الثقافة آنذاك كانت أكثر ديناميكية انتعاشية ونشاطاً ثرائياً مما الحالُ عليه اليوم، وذلك عائد في المقام الأول لكونها كانت مُستقلّةً، حرةً، بدون وزارة، تشرف عليها، وتُمارِس عليها الوصاية الفوقية القبليِّة، وتُموِّلها، لتكتسبِها بالنهاية في صف السلطة الفاسد، حيثُ هي حينذاك ثقافةً خائنةً، مُتاجرة، ظلامية، غير مُستقلة.
2- اتحاد الأدباء والكتاب المحليين: هذا الاتحادُ هو نسخةٌ مُصغرة من الوزارة، ولكنه على عكسِها ينحصرُ فقط على ميدانٍ واحِد دون شمولية جميعِ الميادين، هو ميدانُ الكتابة بجميعِ أنواعِها. الاتحاد مؤسسَة شبه رسمية تشرفُ الدولة بطريقةٍ ما عليها، وعلى مايحصلُ فيها. مايعني بالتالي، عدم استقلاليتِها التامة، يفرضُ على الكتاب العضويين بداخلِها، عدم تناول مواضيع مُعينة تُقارب ثالوث أبو علي ياسين المحرم: (الدين، السياسة، الجنس). تناولاً يُخالِف السائد، ويُعارِضه. مايعني بالتالي ضرورة اعتقادُ السائد المعروف، وعدم مُخالفتِه مطلقاً، خاصةً فيما يعني هذا الثالوث. فلانعارض، مثلاً، السلطة السياسية المتحكمة، أو الدينية الوصائية، أو المُجتمعية العاداتية فيما يخص الكتابة عن الجنس، من الناحية الايروتيكية، أو الجنسوية. أو غير ذلك مماترفضه سلطة المجتمع الأبوية وتعدّه فعلا ناقصاً شائنا، يستحقُ التعتيم والنبذ، كمايستحقُ العقاب الفوري.
إنه هو الآخر يكادُ يكون غارقٌ في الرسمية، إذْ لايخدم الكتابة بأنواعها المُختلفة، بقدر ما يُشوِّهها، ويُقلّلِ من قيمتِها الإبداعية الحرة، من خلال تمييعها، وتقييد المساحات الشاسعة لتجوالِ حروفِها المشاكسة. وعلى مرورِ تاريخ أمثال هذا الاتحادات الرسمية، فإننا لا نجد سوى قلةٌ قليلة جداً، من بين الكُتّاب العضويين بداخلها، الذينَ يكتبون بحرية واستقلالية عالية، تنحازُ للشعب، وللفئات المُهمشة المغبونة فيه، ضد السلطات الفاسدة المُستبدة، المُسيطرة على الواقع، مُضحيا في ذلك بكلِّ شيء، نصرةً للحق وأهله تضامنا مع المظلومين المسلوبة حقوقهم، وهم لايحصونَ اليوم، كما كانوا بالأمس، وسيكونون بالغد، إن لم يتغيّر الحال تغيّراً جذرياً. يُخلخِلُ بنى حياتنا الغائرة في هضابِ تاريخه المُتراكِم.
وبالتالي، فإن نماذج أجهزة تلك الثقافة الرسمية، التي تأخذ بها حيّزها الترابي على أرض الواقع كثيرة جداً ولايُمكِن حصرها، فهي في حالتنا الوطنية، تبتدئ بوزراة الثقافة، مرورة باتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين، وبعض الوسائل الإعلامية الموجودة على الساحة، الساعية، في الغالب، إلى تفريغ عقل المُواطِن، وتزييف وعيِه وتنحيتِه جانباً، أوإبدالِه بآخرَ مُتضخم الفراغ والرداءة. ولعلّنا، إذا تأملنا مرةً أخرى، بعض التمظهرات الثقافية على الواقع، وجدناها تكادُ - إن لم تكن كذلك حقا- تندرجُ ضمنَ تلك الأجهزة المُجندّة من قبلُ في خدمة الثقافة الرسمية وأهلها المرجعيين، وبالتالي النظام السياسي المُجتمعي. من هذه التمظهرات مثلاً: مهرجانات المُدن التاريخية، علاوةً عليها بعض مجالس الجوائر، كجائزة شنقيط مثلاً. هذا مع أنَّنا لانستطيعُ تأكيدَ ذلك بيقينية عالية، ولكننا في العمومِ مُتبعون للظواهر، والظواهر المُتجليّة هنا لاتُبشر باستقلاليةٍ تامة عن الدولة والنظام المُتعدد الأوجه المُتحكم بها. وهنا، تصبحُ قريبةً من الحقيقة، ودليلاً يُوصِل إليها!
إنَّ الثقافة الرسمية تسعى للتشابه: الموت. وهي في الغالبِ ذات طابع فوقي، تجريدي، مقطوع عن الواقع، واقع الوطن، والشعب البائس، المُهمّش، الفقير، الجائع، المريض، المُتشرّد. مامعناه أنها لاتتناول ذلك الواقع، ولاتُسلِط ضوء الفضح والنقد عليه خوفاً من أن ينتشر الوعي بسوء ذلك الواقع. فتصبحَ حينئذٍ مراكز السلطة المُهيمنة التابعة لها مُهدّدة بالزوال. هذا، كما أنها قبلَ كل ذلك، تصبحُ هي بفعلها ذاك ترتكبُ حماقةً لاتُغتفر لأنها تُهدّد وجودها الحقيقي قبل وجود السلطة المُتحكمة التابعة لها.
هكذا في النهاية هي الثقافة الرسمية المُشابرة وشبه مُباشرة بأجهزتِها تظهر عديمة الجدوى، والمردودية على الواقع من حيثُ تحسينه، بل وعلى الثقافة الإبداعية ذاتها، نظراً لتبعيّتِها العمياء، وولائها للنظام الفاسد المُتحكم. وحول طرح سؤال الحلّ، فإن البديلَ الوحيد الصالح للاستضاعة عنها، يكمنُ في ثقافةٍ هامشية حُرّة، في جميع الميادين، من الكتابة الإبداعية، إلى السينما، مروراً بالنقد، وختاماً بالمسرح..الخ. ثقافة هامشية لاسلطوية تمتلكُ نفسها كاملة، حتى تستطيع الانتصار للحريّة، والعدل، والشعب، في وجه قوى الظلام الزاحفة من كُلّ الجهات. وهي ثقافة تنطلقُ من موقع الرفض الناقد، على عكس الثقافة الرسمية/النظامية التي تنطلقُ من القمع والتزييف، المطروح كوسيلةٍ للوصولِ إلى غاياتٍ دنيئة ظلامية، لاتخدم الحياة، ولا الوطن، بقدرِما تُفسِدهما، وتسيرُ بهما إلى وضعٍ أكثر كارثية مما كانا عليهِ من قبلُ!
نقلا عن مدونة الكاتب