نحن وأمريكا وخيوط اللعبة

خميس, 2015-04-16 21:29
صادق الطائي

في لقائه الأخير مع الصحافي توماس فريدمان، أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن «أكبر التهديدات التي يواجهها حلفاء واشنطن من العرب السنّة قد لا تكون من جهة مهاجمة ايران لهم، وإنما من الإستياء داخل بلدانهم»، كما أشار في اللقاء نفسه «سأعتبره فشلا من جانبي… فشلا جذريا لرئاستي، إذا أصبحت إسرائيل أضعف خلال عهدي أو نتيجة لعمل قمت به، لن يشكل فشلا استراتيجيا فحسب، بل أعتقد أنه سيكون فشلا أخلاقيا»، في اشارة الى تأثير توقيع الاتفاق النووي مع ايران وما يمثله من بداية لانفراج العلاقات بين إيران والغرب.
ما ذهب اليه الرئيس الأمريكي في لقائه الأخير يشير بوضوح الى استراتيجيات الولايات المتحدة في المنطقة، التي لا تتغير بتغير الطاقم الرئاسي أو الحزب الحاكم، فالاستراتيجية تقوم على المصالح الامريكية المتمثلة باستقرار دول البترول المصدر لها أولا وأمن اسرائيل ثانيا – وقد يرى البعض العكس في هذا التسلسل – لتأتي بعد ذلك الأمور الاخرى كلها. 
العلاقة بين الأمريكان والمنطقة تمتد لأكثر من سبعين عاما، منذ الحرب العالمية الثانية ولحد الآن، منذ أن ظهرت كقوة عظمى خلال وبعد الحرب العالمية الثانية، وبدأت باحتلال أماكن تواجد الأمبراطورية البريطانية، التي أخذت شمسها بالأفول، وفي حقبة الحرب الباردة كانت الأستراتيجية الأمريكية تقوم على دعم الأنظمة التي تقف مع مصالحها، ولم تكن حينئذ موضة حقوق الإنسان قد ظهرت بعد، فكان حلفاء الأمريكان عادة هم أعتى النظم الديكتاتورية في العالم، ولم يكن أمر الديمقراطية في البلدان الحليفة لها يشكل هما حقيقيا للسياسة الأمريكية طالما كانت مصالحها في آمان، وعندما اجتاح الإتحاد السوفييتي أفغانستان في ديسمبر/كانون الأول عام 1979، هرعت واشنطن للإشتغال على الإسلام السياسي واستثماره لأغراق السوفييت في المستنقع الافغاني وليذيقونهم مرارة الكأس نفسها، التي شرب منها الأمريكان قبل بضع سنوات في فيتنام، وكان التخطيط الامريكي والأموال الخليجية والشباب العربي ومعسكرات التدريب الباكستانية عناصر يكمل بعضها بعضا لتنتج ظاهرة الجهاديين، الذين استطاعوا اجبار السوفييت على الخروج من أفغانستان، ولكن لتولد ظاهرة معقدة أخرى هي عودة هؤلاء الجهاديين الى بلدانهم الأصلية ليمثلوا خطرا على استقرار الدول الحليفة للولايات المتحدة.
بعد تفكك الإتحاد السوفييتي وانتهاء حقبة الحرب الباردة مطلع التسعينات، باتت السياسية الأمريكية تعمل وتدار بشكل مختلف، اذ أصبح العالم يسير وفق ما عرف بالعالم احادي القطب، في اشارة الى تفرد الأمريكان كقوة عظمى في الصراعات الدولية، وكان هنالك تيار سياسي ينضج في كواليس السياسة الأمريكية سيزيح الجمهوريين التقليديين ليحل محلهم مع نهاية القرن وليتعرف العالم على (المحافظين الجدد) مع تسنم الرئيس جورج بوش الإبن سدة الحكم، بما يمثلونه من أفق يميني متطرف، وليحيط رموزهم بالرئيس إحاطة السوار بالمعصم؛ نائبه ديك تشيني ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد ونائب وزير الدفاع وولفوفتيز ومستشارته للأمن القومي كوندوليسا رايس واخرون في مناصب ثانوية في الادارة الامريكية، كل الدائرة الصغيرة المحيطة بالرئيس الدمية هم محافظون جدد، يرسمون سياسة البلد وفق رؤيتهم السياسية المتمحورة حول فكرة القرن الأمريكي، معتمدين على بعض الطروحات ذات السمة الأكاديمية مثل «نهاية العالم» لفوكوياما و»صراع الحضارات» لصامويل هنتنغتون. 
هذه الطروحات وبشكل خاص نظرية هنتنغتون استوجبت خلق عدو بديل لتدميره، وكان هذا العدو هو الجهاديون الإسلاميون ورمزهم إمارة طالبان الإسلامية البائسة في أفغانستان ولبها الفكري تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن، وجاءت الفرصة للمحافظين الجدد على طبق من ذهب عبر احداث 11 سبتمبر/أيلول، التي رأى البعض أنها فبركة تتساوق مع النهج الامريكي المتصاعد – وهنا بدأت خيوط اللعبة بالتشابك مرة اخرى؛ فحــــواضن هذا الفكر المتشدد هي الدول الحليـــفة للولايات المتحدة، لذا احتاج الأمريكان الى فصـــل توضيحي بين من هم الأعداء ومن هم الحلـفاء وســـعوا الى طرح فكرة شمولية للحرب المقبلة، التي ستخـــوضها الولايات المتحدة بصفتها حاملة راية الخير المطلق في العالم ضد أعدائها الممثلين للشر المطلق في العالم، في رؤيا يختلط فيها الميثولوجي بالديني بالسياسي. 
وظهر في الخطاب الأمريكي في هذا الوقت مصطلح (محور الشر) الممثل في الدول (المارقة والداعمة للإرهاب) من وجهة النظر الأمريكية وقد تمثل في (كوريا الشمالية، أفغانستان، إيران، العراق، سوريا) وبالتركيز على الحلقات الأضعف في هذه السلسلة كانت الضربات الأولى من حصة نظام طالبان، ثم نظام صدام، وبذلك تكون الولايات المتحدة وحلفها الدولي قد خنقت إيران بين فكي كماشة، قواتها في افغانستان والعراق، وكذلك هو حال سوريا، فكماشتها بين قوات التحالف في العراق وبين اسرائيل الحليف الإستراتيجي لها، أما قرار التغيير في هاتين الدولتين فسيتم في الوقت الذي تحدده الولايات المتحدة، وبذلك لن يتبقى من الدول المارقة إلا كوريا الشمالية التي اشتغل عليها الامريكان بطريقة مختلفة نتيجة عبورها الخط النووي الاحمر، العمل الأمريكي جاء عبر الضغط على كوريا الشمالية للانفتاح على كوريا الجنوبية وطرح فكرة الوحدة بين شطري شبه الجزيرة الكورية، وهذه الوحدة ستؤدي بالتأكيد الى تآكل النظام الشيوعي الشمولي في كوريا الشمالية، كما حصل بعد الوحدة الألمانية وانتهاء المانيا الشرقية.
لكن ايران وسوريا لم تجلسا وتنتظرا مصيرهما بسلبية، وإنما اشتغلتا على إغراق الأمريكان في المستنقع العراقي لتدور دورة اختلاط وتشابك خيوط اللعبة مرة اخرى، حيث مثلت ايران المعبر والداعم الأساس للمتمردين الشيعة، الذين قاتلوا الأمريكان، بالاضافة الى استثمار علاقاتها التاريخية مع أحزاب الإسلام السياسي الشيعي الفاعلة في العملية السياسية للعب الدور الأكبر اقليميا في الساحة العراقية حتى اعتبر السفير الإيراني في بغداد هو المندوب السامي وصانع الاحداث بعد 2006.
أما سوريا، حليفة ايران التاريخية، وبحكم محاذاتها للجزء السني من العراق، فقد مثلت المعبر الأهم للمجاهدين السنة الذين دخلوا العراق وقاتلوا الأمريكان عبر تنظيمات اسلامية وقومية وبعثية متفرقة، والتي سرعان ما تبلورت في ما عرف بتنظيم «القاعدة» في بلاد الرافدين بقيادة الاردني أبو مصعب الزرقاوي، الذي ضم الإسلاميين والبعثيين وضباط الجيش السابق وأفراد القوى الأمنية المنحلة والمتمردين من العشائر السنية، التي شعرت بالخوف من التهميش على يد القوى الكردية والشيعية الصاعدة في العراق الجديد.
ويفشل السيناريو الأمريكي، الذي كان يخطط لجعل العراق منصة انطلاق لليبرالية والديمقراطية في المنطقة كما توهم الأمريكان وهم يبنون حلمهم على اضغاث أحلام ما حصل في الخمسينيات في جنوب شرق آسيا، هذا السيناريو كان قد أرعب أعداء الولايات المتحدة وحلفائها على حد سواء، فالإستراتيجية الأمريكية المتعارف عليها تقوم عادة على إدامة العلاقات مع دول مستقرة تحفظ المصالح الامريكية، لكن جل حلفاء الأمريكان في المنطقة دول ما تزال تخضع لنظرية «الحق الإلهي» مع غياب كامل للديمقراطية، وبالتالي فقد تلاقت مصالح الخصوم والحلفاء على إغراق الأمريكان في المشكلة العراقية، وهنا اشتبكت خيوط اللعبة الى درجة المفارقة، ففي الخليج حيث قيادة المنطقة المركزية الوسطى لقوات الولايات المتحدة وأهم قاعدة في الشرق الاوسط ومقر العمليات الأهم في العالم، لكن من جانب آخر تتسرب من هذه المنطقة الأموال والشباب بغير حساب للجهاديين الذين يقاتلون الأمريكان في العراق وأفغانستان، وكل ذلك يتم تحت نظر الرقابة الأمريكية التي أعلنت تقارير استخباراتها هذه المسألة وعزتها الى نوع من التوازن يستطيع الساسة تقديره واتخاذ القرارات بشأنه.
ومع اندلاع موجة الإنتفاضات الشعبية التي عرفت بـ «الربيع العربي» شهد العالم سقوط أنظمة انتهت مدة صلاحيتها، أنظمة ظهرت في ظل توازنات الحرب الباردة، ومع انتهاء هذه الحرب بقيت تلك الأنظمة تحاول التماسك بوجه التغيير، متوسلة بالعنف والتسلط والفساد، الذي نخرها حتى أصبحت هياكل خاوية، ومع اندلاع الإنتفاضة الشعبية في تونس تقودها نخبة من الشباب المثقف، من خريجي الجامعات الذين يعانون من البطالة برغم مستواهم التعليمي ممن عرفوا بمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«يوتيوب»، والمطالبين بالحريات العامة والعدالة الاجتماعية، حتى سارعت الولايات المتحدة مع حلفائها الغربيين للتخلي عن الأنظمة القديمة والظهور بمظهر الداعم لحركات التمرد، والمفارقة أنها دفعت بحلفائها الإستراتيجيين للوقوف مع (الثورات) التي تسارعت في مصر وليبيا واليمن، فكان المشهد كاريكاتوريا بامتياز، دول ليست لها أي علاقة بالديمقراطية ووسائل إعلامها الضخمة والمنتشرة في كل العالم تصرخ بالشعارات الديمقراطية الثورية صباح مساء، لكن الهزات لا تتوقف عند الحدود الرسمية للدول بعد أن فتح فضاء التكنولوجيا العالم، فسرعان ما شب التمرد في خاصرة الخليج الرخوة، في البحرين المتوترة طائفيا وفي سلطنة عمان الدولة الأفقر في دول مجلس التعاون، لكن المملكة سارعت بتقديم منح مالية فاقت العشرة مليارت، بل لم تقف مكتوفة الأيدي وهي تشاهد الخطر الحقيقي يتناوش الحليفة الأصغر البحرين، فسارعت لإرسال قوات درع الجزيرة في أول مهمة لها من هذا النوع لتستعيد الأمن في البحرين، وفعلا هذا ما تحقق، كذلك سعت المملكة لاحتواء الأزمة اليمنية لما تمثله اليمن من مجال حيوي للمملكة، فلم تترك الرئيس صالح يواجه مصير الرؤساء الأخرين، بل طرحت المبادرة الخليجية واحتوت الأزمة موقتا عبر صعود رئيس متفق عليه هو عبد ربه منصور هادي.
ومع تغير المعطيات الجيو- سياسية، التي تبلورت مع ظهور داعش في المنطقة وتمددها السريع وسيطرتها على مساحات واسعة في استراتيجية جديدة تتمثل في اقامة دولة اسلامية تمسك الأرض وتطالب المجاهدين بالهجرة لها، مع هذا الوضع، اصبحت المنطقة تجلس على برميل بارود من التوتر والإستقطاب الطائفي الحاد الممثل في محورين (الايراني – السعودي)، ومع سيطرة ايران على ما أطلق عليه الهلال الشيعي (ايران، العراق، سوريا، حزب الله اللبناني) وتمددها في اليمن عبر حلفاء ايران من حركة انصار الله الحوثية كان هو الذي دق ناقوس الخطر، بل وأشعل نار الحرب، ومع أن الولايات المتحدة ومنذ اليوم الأول أيدت وابدت استعدادها لدعم عملية (عاصفة الحزم) التي تشنها قوات إئتلاف تقوده السعودية على الحوثيين في اليمن، الا أن هذه العملية آخذه في تعقيد المشهد أكثر من أن تقدم حلولا لا تهدد المصالح الأمريكية، ومن هنا ربما سنشهد تغيرا في الموقف الامريكي في مقبل الأيام يقترب من الموقف الروسي المطالب بايقاف العمليات العسكرية واللجوء للحوار بين أطراف المشكلة جميعا.