رغم ان السخرية والكوميديا هي السمات الأبرز للشعب المصري في التعامل مع الواقع وضغوط الحياة، إلا ان ثورة 25 يناير أبرزت العديد من السمات الأخرى التي مازالت تعلن عن نفسها عبر الوقت. ورغم ان تلك السمات ليست جديدة، وبعضها تواجد بالفعل ويمكن رصده في العديد من المواقف، إلا ان الثورة أحضرته للواجهة وجعلته جزءا أساسيا من واقع الثورة وما بعدها.
ومع تعدد تلك الصفات التي ظهرت للعلن بعد ثورة يناير يظل للتناقض مساحته الخاصة التي لا يمكن تجاوزها أو التغاضي عنها. تناقض ظهر في لحظات الثورة الأولى بين من وقف ضدها ثم عاد بخطاب على طرف النقيض مما قيل في مرحلة العداء قبل ان يعود من مرحلة المصالحة مع الثورة إلى الجهر بالعداء بها ومحاربتها.
ولكن التناقضات لا تتوقــــف عند خطاب الثورة أو ما يشبهه من مواقف سياسية بقدر ما يمتد ليصل إلى عمق الواقع بتفاصيله ويمتد ليصل إلى جهات ومؤسسات ربما لم يفترض فيها البعض هذا القدر من التناقض.
يطرح هذا الحديث تصريحات أدلى بها المستشار هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، حول ما يتعلق بدور الجهاز وقدرته على ممارسة عمله الرقابي على الأجهزة السيادية وهي قضية يكرر الإشارة إليها منذ فترة مشيرا لعدد من الوزارات التي ترفض رقابة الجهاز عليها. تصريحات جنينة تلك المرة أشارت إلى عدم مطالبته بتدخل الرئيس، بل وعدم إبلاغ الرئيس بالأمر، رغم ان جنينة نفسه أكد على قدرة الرئيس على حل المشكلة في حال إبلاغه وانه سيقوم بهذا ان دعت الأمور. أما عدم قيامه بهذا فقد أرجعه إلى رغبته في التعامل مع الموقف وعدم تحميل الرئيس كل المسؤوليات.
وهنا لابد ان يثور السؤال حول صالح الوطن والمواطن مقابل الحديث الممتد عن رفض تلك الأجهزة لدور الجهاز أو عدم تعاونها معه بالقدر الكافي، وعن من يتحمل التكلفة المترتبة في ظل الانتظار ما دامت المشكلة لم تحل. أما فكرة عدم إبلاغ الرئيس فتبدو محلا للجدل خاصة وان القضية تطرح إعلاميا بشكل متكرر، وان كانت رغبة التصريحات هي إعطاء مساحة إيجابية للرئيس والتأكيد على حل المشكلات فور تدخله، فان الحديث عن عدم معرفته وعدم إبلاغه بقضية على هذا القدر من الأهمية والعلنية تصب في الجانب السلبي وتتناقض مع محاولة تقدير المكانة المفترضة.
يبدو التناقض واضحا بين رغبة المسؤول في التأكيد على حجم المشكلات التي تواجهه، وحجم التحديات التي تواجه النظام بمؤسساته في إطار صراع القوة والسلطة من جانب، ورغبه المسؤول في إعطاء القيمة والمكانة لصاحب المسؤولية الأعلى منه، الرئيس في تلك الحالة. ولعل النتيجة التي يمكن ان يصل إليها المواطن هي ان هناك حلا سهلا وسريعا للتعامل مع الأجهزة التي لا تتعاون أو ترفض الرقابة عليها وهو إبلاغ الرئيس وتدخله، ولكن صراع الأدوار يعوق الحل ويفضل استمرار الخلافات والمشكلات القائمة والحديث عنها في الفضائيات والصحف دون حل واضح. يصبح المطلوب من المواطن ان يفهم ان الفساد خطر وان هناك رغبة معلنة في مواجهته وفي ضبط المؤسسات والرقابة عليها، ولكن عليه ان يقنع ان كل ما يدور حول هذا الأمر من تصريحات ولقاءات وبرامج لا تصل للرئيس، وان الشخصيات المعنية تفضل الحديث عن المشكلة وجهودها للحل دون التوصل فعليا لهذا الحل رغم انها تعلن قدرة الرئيس على الحل السريع. ويصبح على المواطن ان يقبل ان الرئيس يعرف كل شيء ويدير كل شيء، ولكن لا يتم إبلاغه بقضية بتلك القيمة والمكانة.
ربما يرى البعض هنا تناقضا آخر وهو ان الدعوة لتدخل الرئيس تتناقض مع المطالبة المستمرة هنا بالبناء المؤسسي، ولكنه تناقض شكلي مرتبط بالتصريحات المعلنة. وان كان مضمون التصريحات حقيقيا، فان صالح الوطن يقتضي ان يتم هذا التوجيه الرئاسي على ان يكون خطوة تتبعها خطوات بناء علاقات شفافية ومحاسبة، وعلاقات أكثر وضوحا بين المؤسسات والتأكيد على استقلإلية ومكانة الأجهزة السيادية، وربما اعادة النظر في إطار العمل العام لتلك الأجهزة والأدوار التي تقوم بها ومساحة الإعلان عن المشاكل التي تواجهها، والتمييز بين ان يكون الإعلام وسيلة ضغط وإصلاح ورقابة وان يكون جزءا من تنفيس القدر أو إشعال حالة الجدل من وقت لآخر للتأكيد على عظم المشكلة دون ان تترتب عليها أي حلول واضحة.
ولكن هذا التناقض الذي يمكن تتبعه في أجزاء أخرى من التصريحات خاصة الحديث عن مفاجأة تجاوز راتب الرئيس للحد الأقصى والتي تبدو أيضاً محاولة لتركيز الضوء على دور المسؤول الأعلى، لا تنتهي عند علاقات وظيفية أو هيكلية بين المؤسسات بقدر ما تمتد لعالم الأفكار نفسه.
وقد ظهر تناقض الأفكار واضحا في ما يعرف بالدعوة لمليونية خلع الحجاب في ميدان التحرير. ولا يمكن التجاوز عن تداعيات المقارنة بين ثورة يناير وما ارتبط بها من مليونية الرحيل وما يشبهها من دعوات وما يفرزه الواقع من مسميات تفتقد المعنى والمنطق وتمارس دورها في ادامة حاله الجدل العشوائية التي تجعل الجميع في حالة انشغال ووقت الوطن في حاله ضياع.
مليونية ثورة تدعو للحرية والخلاص من الاستبداد وكل ما ارتبط به نظام الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك من فساد وإفساد وظلم، ودعوة تتصور ان الحرية في التخلص من الحجاب. وبعيدا عن البعد الديني للقضية، فان من يقدم التخلص من الحجاب بوصفه دليل حرية وقف كثيراً أمام فترة حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي بوصفها فتره الإجبار على ارتداء الحجاب ليس بوصفه حجابا تحديدا ولكن بوصفه إجبارا.
في الحالتين يبدو الخطاب وكأنه خطاب حرية، ولكن في عمقه هو خطاب سلطوي بدرجة ما، خطاب يرى المرأة بوصفها مفعولا وجزءا من رمزية إطاره الفكري ويتعامل معها بوصفها أداة لتأكيد فكرته أو ترويجها. ان ارتدت الحجاب اعتبره إجبارا وجزءا من قمع الإخوان، وان نزعت الحجاب فهو جزء من حرية القرار. لا يقرا تناقضاته الواضحة ويقدمها في إطار براق يسمى الحرية مستخدما كل ما يرتبط بها من مصطلحات إيجابية وبراقة، ولكنه في هذا يتجاوز عن حقيقة ارتباط الحرية باحترام الآخر واحترام قراراته بما فيها اختيار ما يلبس أو لا يلبس ما دام لا يتعدى على حقوق المجتمع أو الغير. يتصور البعض ان خطاب الاستعداء المستمر عبر الإخوان وغيرهم، أو فكرة الشعب والشعب كما رددت كلمات أغنية تكررت بعد 30 يونيو لتصبح لدى البعض سمة المرحلة، كافية لقبول كل ما يقدم في طبق العداء للإخوان أو مخالفة رغباتهم رغم ان الوطن أكثر اتساعا بكثير من تلك التقسيمات ورغم ان الإنسانية والحرية يفترض بها ان تكون أكثر تسامحا من تلك المقــــولات التي تتحول إلى حالة اثارة جديده تستنفد المزيد من الوقت من الوطن والجميع.
رغم الاختلاف الظاهر بين تلك التناقضات وما تمثله من إطار مؤسسي واطار فكري، إلا انها جميعا تتحرك في مرحلة ما بعد ثورة يناير وما فرضته من مساحة انكشاف كان يتم التجاوز عنها عمدا في الكثير من الأحيان، كما تتحرك في إطار أوسع لعالم الأفكار الذي يحكم علاقات السلطة ومكانة المسؤولين ويحكم الخطاب المستخدم ومبرراته.
ساعدت يناير على إظهار التناقض الذي تعمق مع الوقت في ظل تحديات الثورة والقفز منها وإليها، وجاءت يونيو وما تلاها لتفرض المزيد من الألوان وعلامات الفصل بين البشر في المحروسة على أسس متعددة تمتد من المواطنة وتعريفها إلى الدين والتعامل معه في إطار ربطه بجماعة محددة وإخراجه من سياقه العام لدرجة ان الدعوة إلى خلع الحجاب اعتبرت انها تعيد اكتشاف الهوية المصرية. في الوقت الذي يحرص فيه البعض على إيجاد مساحات أكثر تنوعا للتمييز والفصل بين المواطنين لنتذكر مع الكاتب الجنوب أفريقي ج.م. كوتزي في روايته «في انتظار البرابرة» ان عددا كبيرا يخلق البرابرة أو يعمق من خطورتهم لان انتظار البرابرة قضية تتجاوز قيمتها أحيانا الامبراطورية أو السلطة إلى الأفراد أنفسهم خاصة من تزداد أهميتهم في حالة الانتظار وربما بصورة اهم من يساعدون على خلق الصورة المرعبة للبرابرة لتأكيد ان لا شيء يعلو فوق صوت الحرب المقبلة وان كل الموارد يجب ان تكون في انتظار البرابرة، أما التناقضات فمن شأن زيادة غبار الحديث عن البرابرة بصور مختلفة ان يصرف الأنظار عنها فالخوف من عالم البرابرة المقبل أكثر حضورا من التوقف أمام تفاصيل الكلمات وتناقضاتها رغم أهميتها في فهم اللحظة وما يترتب عليها من تطورات.