رغم حصول البلاد خلال خمسة عقود تزيد من السنين على نصيب وافر من التعليم و المعارف و من خلال كل أثواب الحداثة التي تجلت في قيام الصروح التعليمية بكافة درجاتها و مختلف اهتماماتها و ما أفرزت جحافل الخريجين فيها بأعلى الدرجات و منتهى الشهادات و متنوع الاختصاصات على قيام الدولة الحديثة، إلا أن الواقع الثقافي ما زال متسما بالتخلف و راهنا البلد لكل بؤر التقاعس عن ركب الأمم في مسارها نحو التقدم و الرفاهية والديمقراطية.
هل هو "التخلف الثقافي" الذي نحن في عين إعصاره و بعيدين، في تناقض صارخ مع ذلك، عن اهتمامه بحالنا على أيدي جامعيينا و مثقفينا و الذين هم عن ذلك في شغل فكهين؟
و يبقى مع ذلك أن "التخلف الثقافي" هو الذي كان، بحسب المهتمين به و دارسيه ظاهرة تفرض نفسها، يشير في مجمل مضمونه إلى الفكرة المتمثلة في أن الثقافة تستغرق وقتًا للحاق بركب الابتكارات التكنولوجية علما بأن ثمة مشاكل وصراعات اجتماعية تحدث بسبب هذا التخلف ليتحول لاحقا إلى القول بأنه لم يعد ينطبق على هذه الفكرة فحسب وإنما بات أيضًا يتعلق بالنظرية والتفسير ويساعد في تحديد وتفسير المشاكل الاجتماعية وكذلك توقع المشاكل المستقبلية من خلال استشراف يعتمد على الملاحة و التتبع المنطقي لمجريات الأمور و حدوثها.
و في هذا الصدد يقول جيمس دبليو وودوارد "عندما تتغير الظروف المادية، فإن ثمة تغيرات تحدث في الثقافة التكيفية، غير أن هذه التغيرات في الثقافة التكيفية لا تتزامن بدقة مع التغير في الثقافة المادية، وهذا التأخر هو التخلف الثقافي" . وتمت صياغة المصطلح من قِبل عالم الاجتماع "وليام إف أوجبيرن" في كتابه التغير الاجتماعي فيما يتعلق بالثقافة والطبيعية الأصلية(Social change with respect to culture and original nature) و تشير نظريته بشأن التخلف الثقافي إلى أن فترة عدم تكيف تحدث عندما تكافح الثقافة غير المادية للتكيف مع الظروف المادية الجديدة.وهذا يعكس فكرة الحتمية التكنولوجية، من حيث أنه يفترض أن للتكنولوجيا آثارًا على المجتمع ككل."
ووفقًا لـ"أوجبيرن" فإن التخلف الثقافي يُعتبر ظاهرة مجتمعية شائعة بسبب ميل الثقافة المادية إلى التطور والتغير بسرعة وبشكل كبير جدًا في حين تميل الثقافة غير المادية إلى مقاومة التغيير والبقاء كما هي لفترة أطول من الزمن. و لو تسنت لـ"أوجبيرن" معرفة كبيرة و معمقة بثقافات الشعوب غير الأوروبية لهاله حجم غياب بعضها عن حيز السعي إلى ذلك و تحجره الأعمى و عدم مبارحته حيزيه الزمني و المكاني.
و أما الذي على مستوى المفاهيم السائدة في مثل مجتمعنا الموريتاني بالتحديد فإن الثقافة لا تعدو كونها مغنما و وسيلة و سلاحا ظرفيا فرديا تارة و جامعيا ضيقا تارة أخرى، ما يجعله أشد مظاهر التخلف الثقافي والفكري عند عموم نخبة أهل البلد. و هذه الحالة المزمنة و المتفردة في شبه المنطقة تتجلى في ظاهرة بكل وضوح في ما يكون من الاحتماء السافر بالماضي و الافتخار به على طريقة "أولئك أبائي فجئني بمثلهم" مع انكماش و انحسار و بعد بل و غياب عن دوافع الحداثة و رفض بالأخذ بوسائلها التي أضحت لغة في حد ذاتها قد تصارع باقتدار سيئَ و عفنَ لغة الماضي و تدفع لغة الحاضر المتعثرة إلى مدارك الاستشراف المبشر بالتحسن المضطرد الموصل إلى أعلى نتائج الثقافة العالِمة البناءة و المشكل الرافعة إلى مصاف الأمم المؤهلة لحجز مقعد في قطار العولمة.
تمر السنون و لا تتغير ملامح البلد المطبوعة بكل علامات هذا التخلف الثقافي رغم انتشار المعرفة كما أسلفنا و وفرة النخب و تنوعها من ثقافية بأعلى الشهادات و علمية بمختلف التخصصات و سياسية بكل المفرزات الفكرية و الفلسفية و العقائدية و العلمية و الحقوقية و غيرها. فهل من مُدكِر؟
حقيقة مرة، و إذ لا تبدو لافتة البتة و كأنها أمر طبيعي و مسار حتمي صاغته الأقدار، فإنها تستدعي كل الانتباه و تتطلب بالغ الجهد و شديد الانتباه حتى لا تظل تتجه بالبلد إلى منحدرات الإخفاقات و منزلقات الفتن العرقية و الطبقية التي تتعالى نغماتها النشاز مع دولة المواطنة الضعيفة البنية و الهشة الأساسات علما بأن الثقافة تتميز بخصوصية خطورة دورها في تحريك و توجيه و تطوير المجتمع؛ فهي الرافعة الرافدة المحركة و الموجهة المنظمة للإنتاج و إعادة إنتاج الحياة المادية و الفكرية في المجتمع على طريق التنمية البشرية. و إنما تكمن خطورتها في استخدام تحريكها و توجيهها و تنظيمها على الطريق الصحيح في نسقها الثقافي الإنساني العام، لأن الثقافة تكوين إنساني تنويري يتجدد و يجدد الحياة في أبعاد التعدد و التنوع و الاختلاف و التلون الإنساني وهي بذلك إنما تكون المنعطف الأوسع و الأشمل و الأعمق في التاريخ لتراث البشرية و لإرثها الشرعي في كل أصقاع المعمورة. أما خطورة الثقافة من منطلق هذه الرؤية فتكمن في كونها إرثا بشريا مشاعا للجميع.. و هي الأكثر استثمارا و استغلالا للطبقات و الفئات و شرائح المجتمع التي تتسيد الحياة الفكرية و السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية. و قد ترتبط كإنتاج فكري و إبداعي بمراحل انتقال المجتمعات و الحضارات من العبودية و الإقطاعية و الرأسمالية و الاشتراكية و كانت و لا تزال تشكل خصوصية في جوهرها الإنساني و في حركتها التنويرية الإبداعية و التوجيهية.
فهل استطاعت كل نخب هذه البلاد و مما تقدم أن ترفع درجة الوعي الذي تتطلبه المرحلة و المعطى الزمني و المكاني اللذين غيرا ملامح التاريخ و نسقه الروتيني، الذي كان معهودا، إلى المنطلق الجديد، هل استطاعت إذا أن تصاحب "الميكانزمات" المتمخضة عن ذلك و أن تأخذ بها للتحول الإيجابي الذي يضمن لها مع كل ذلك مكانتها كاملة سامقة على هرم البنية الصحيحة المستهدفة؟ كل المؤشرات و الوقائع في التعاطي مع الثقافة و السياسة بمعنييهما الشاملين الإعدادي "النفسي" و الأخلاقي "المدني" و التنموي "التشييدي" إن جاز التعبير تشير إلى عكس ذلك بدليل كل علامات الجمود و التقهقر في العملية التنموية.
فلقد احتوت البنية النمطية القديمة الاجتماعية و الحياتية المادية على كل معطى التحول الذي تتطلبه الحداثة و إرساء قواعد دولة القانون و الديمقراطية فجمدت طرفي الثقافة و السياسة لتحركهما كما تشاء على مسرح:
- الإقطاعية بكل ألوان طيفها،
- و الرأسمالية العشائرية و الفئوية بشتى القراءات الضيقة في دائرة الانتماءات العرقية لتقاسم صارخ كل مقدرات البلد و خيراته،
- و مواطن التسيير المتقدمة في أجهزة الدولة و العبث بقوة مراكز السلطة في دائرة الحكامة،
- و التأثير السلبي لغياب المعارضة السوية التي تعترف بمرحلة أولى تدعى بمرحلة "صنع بداية الطريق" و لا مكان لها في تسييرها بقدرما هي التي ستفرض استقامتها بالرقابة الشديدة و التوجيه السديد،
- و غياب الرقابة العلمية الفنية و القانونية على مشاريع البلد الإنمائية الكبرى التي يتم إنجازها لأجيال متعاقبة وفق مخطط تنموي يراعي توازنات البلد و متطلبات مستقبله القريب.
و لا شك أن تعطل رأس القطار كفيل بإيقاف كل القاطرات و إبطال مفعول محتواها. و العجيب الغريب أن هذه النخب بكامل أوجهها و محتوى قدراتها و طاقاتها لا تبدو مكترثة بأجواء التخلف الثقافي التي تسبح في أجوائه العفنة و كأن الوضع طبيعي و الأمور على ما يرام. فهل الوضع حقا طبيعي؟