سيقول لك أكثر الناس تفاؤلا إن أنت سألته، إن فرص نجاح الحوار الحالي قليلة جدا، وأما السبب وراء هذه الموجة الوطنية العارمة من التشاؤم، فيعود في الأساس إلى غياب الأرضية المواتية لفعل سياسي، يمحق الخلاف ويربي المشترك.
وفي الواقع هناك ثلاثة معوقات رئيسية وقفت حاجزا منيعا أما كل المحاولات السابقة لخلق أدنى درجات الوفاق الوطني، وكل المؤشرات تؤكد أن تلك المعوقات ما تزال قائمة حتى اليوم وترفض أن تتزحزح من مكانها:
أول هذه المعوقات يتلخص في غياب "ثقافة وطنية" في مجال الحوار، فمنذ المحاولة الأولى التي قام بها نظام الراحل المختار ولد داداه مع خصومه السياسيين بعيد الاستقلال، ظل الحوار عندنا مجرد "منة" من النظام السياسي القائم، يقدم خلالها بعض التنازلات لمعارضيه، دون أن يصل الأمر إلى حد تنقية قواعد اللعبة الديمقراطية.
ولأن الزمن تجاوز مثل هذه المقاربات، ولأن "نظرية المنة" تلك بقيت معششة في ذهن النظام السياسي، فقد كان من الطبيعي جدا أن يتحول الحوار خلال السنوات الأخيرة، إلى ما يشبه موقعة حامية الوطيس بين النظام ومعارضيه، يحاول خلالها كل طرف أن يقطع العشب من تحت أقدام الطرف الآخر وأن يوقع به أكبر الخسائر.
هذه الدرجة من التشنج والحدية في التعاطي بين أطراف المشهد السياسي الوطني، هي أكبر عدو للحوار، وهي التي جعلت الجمع ينفض دائما دون التوصل إلى الصيغ التوافقية المنشودة، ليتحول الأمر لاحقا إلى مهرجان وطني للسب وكيل التهم.
المعوق الثاني هو "غياب الثقة" بين الخصوم السياسيين، وإذا كنا قد ورثنا هذه العادة السيئة منذ أول عهد لنا بالممارسة السياسية في أربعينيات القرن المنصرم، إلا أن هذه الثقة تضررت كثيرا خلال العشرية الأخيرة، بفعل الهزات القوية التي شهدها البلد والتي تجاوزت كل مقاييس المشهد السياسي الوطني.
ولعل أكبر دليل على أن "غياب الثقة" هذا، بات راسخا في أذهان الجميع، هو أنه كلما تم الإعلان عن جولة جديدة من الحوار، يعود ذلك السؤال المزمن إلى الواجهة: ما الذي يرمي إليه النظام من وراء هذا الحوار؟ و لا يتم تداول هذا السؤال في أوساط المعارضة فقط، بل وداخل الأغلبية الرئاسية أيضا.
لقد تحول الأمر مع مرور الوقت إلى ما يشبه ذلك المشهد المألوف في أفلام رعاة البقر الأمريكيين، الذي يقف فيه الخصمان وجها لوجه وكل واحد منهما يضع يده على مسدسه، بينما نحبس نحن أنفاسنا مشدوهين ومتسائلين أيهما سيطلق الرصاصة الأولى.
وأما المعوق الثالث فهو لا يقل أهمية عن سابقيه، ويتعلق الأمر هنا ب"غياب الوسيط" الذي تطمئن إليه كل الأطراف وترضى به حكما بينها.
ففي بلد لا يكاد يسلم فيه شيء من دخن السياسة، تساقط كل الوسطاء المحتملين الواحد تلك الآخر، حتى لم يبق منهم أحد، تاركين وراءهم فراغا من الصعب الحديث عن أي حوار قبل التفكير في ملئه.
هذه المعوقات ما زالت حتى اللحظة ترمي بظلالها الثقيلة على المشهد السياسي في البلد، قاطعة الطريق أمام كل النوايا الحسنة بخصوص الحوار، ويشكل التصدي لها المعركة الوطنية الحقيقية التي لم تعد تقبل التأجيل، إن نحن أردنا الانتقال من حالة اليد الموضوعة على المسدس، إلى حالة اليد الممدودة والمستعدة لمسح الطاولة والبدء من جديد.
نقلا عن صفحة الكاتب