
كان أوّل من فايش في الورِق بين الكسكس والعيش هو الأديب محمد فال ولد عبد اللطيف، والفيش مفهوم عباسي وممارسة أدبية عريقة. وقد تفايشت ربة البيت مع أم الولد؛ وفايش شيخنا الجاحظ بين الغلمان والجواري. وقد فايش كتاب المقامات بين الأعراب والحضريين. وقد ظهر الفيش كمرحلة ثانية من صراع الهويات بعد أن أفسحت حروب القيسية واليمانية لحروب الشعوبية والعروبية؛ ثمّ تفايشت التمايزات الجنوسية والأقوامية. وكان آخر التفايش، وإن لم ينل حقّه من الأدب، هو تفايش الجند والكتاب، أو بين الكتاب والعلماء. وقد، وهذه مأساة التاريخ الإسلامي، انتهى الأمر مع السلاجقة بانتصار الجند على الجميع.
وإذا كان الفيش العباسي كان هروباً من الهويات العشائرية والجهوية فإن الفيش الموريتاني بين الكسكس والعيش كان، في بعض جوانبه، عودة للتمايزات الجهوية. فالعيش كان غربياً والكسكس كان شرقياً. على أن التاريخ لا يُسلِّمُ باحتكار "أرض القبلة" للعيش، فالحفريات تدُلُّ على أصله في أوداغست في القرن التاسع الميلادي. أما أقدم إحالة إلى كسكس فهي إحالة ابن بطوطة إلى "كسكسو" (باللكنة المغربية ) في ولاتة في القرن الثالث عشر،
والكسكس هو الثريد، إذ يبغي لحماً ومرقاً. ولكن هذا ليس حقيقة أبدية. وقد أنتجت منطقة أولاد امبارك في القرن الثامن عشر كسكساً باللبن، لا بالمرق، فألغت، متأثرة بالمجال السوداني، ثريدية كسكس، وأسّست لعيشِيّتِه. وهذا مثال على وهمية ثنائية الكسكس والعيش.
أما العيش، فمثله مثل الكسكس، قد خضَعَ لتحويرات أصله. وتؤكد لنا اشتغالات العيش في السيميائيات البيضانية أنّه طعام الطباع الهادئة، وأحياناً المستكينة، بعكس الكسكس، الذي أضاف له "أهل الشرق" "الشروط" و"الكمون" وذلك لما ازدهرت تجارة البهارات ودخلت قوافل الصحراء في القرن التاسع عشر.
ولكن هذه أسطرة. فالحقيقة أن العيش في أصله كان طعامَ العرب المحاربين. وهو خبزهم وهم من استقدموه وأحيوه. ونقولُ بهذا لأن مطابقة "العيش" بـ"الخبز"، كما في اللهجة المصرية مثلاً، هو منتوج من عربية القرن التاسع والعاشر. وقد سارت به الركبان الهلالية والسليمية إلى ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا. ونعرف أن "العيش" كان طعام المحلات الحصفية والحُسينية في تونس، وهي محلات "العرب"؛ وكان المخزن المغربي يُطعمه لجنوده وشباناته في حملات تغريم المزارعين. ومن الواضح أن هذا الخبز طُوِّرَ في موريتانيا، فرغم بقاء قمحيتيه أو شعيريته إلاّ أن عرب الصّحراء لم يعودوا يجمرونه كثيراً، لإبقاء كافة خصائصه الشعيرية وإغراقها باللبن للتعويض عن نقص النبات في الصحراء، وخصوصاً أنّهم فصلوا بين العيش والبروتين فألغوا أصله كصديق للثريد.
إذن العيش هو خبز ضاع في التاريخ مثله مثل، أسد الصومال، الذي تحوّل إلى قط من شدة الجوع.