شكل تفجير خلية الأزمة يوم 18 يوليو/تموز 2012 علامة فارقة في تاريخ الثورة السورية، فبفقدان خمسة من كبار القادة الأمنيين والعسكريين، فقد الجيش السوري البوصلة الموجهة لإستراتيجيته العسكرية.
ومنذ ذلك التاريخ، لم يكسب الجيش السوري أي معركة حاسمة بجهوده الخالصة، وبمعزل عن مساعدة حلفائه من الحرس الثوري الإيراني وحزب الله وأكثر من ثلاثين فصيلا شيعيا، بدءا بلواء أبو الفضل العباس وانتهاء بلواء فاطمة الهزاري. كما أثبتت الوقائع الميدانية أن الانتصارات التي سجلت في القصير وتل كلخ والقلمون والسفيرة كانت لصالح حزب الله والفصائل الأخرى، بينما اكتفت قوات النظام السوري بتقديم الإسناد الناري الجوي والصاروخي والمدفعي والمساهمة المحدودة بقوات أرضية.
أدى القضاء على جبهة ثوار سوريا وحركة حزم على يد جبهة النصرة إلى تعزيز موقف المعارضة المسلحة في محافظة إدلب في الأبعاد الجغرافية والمادية والمعنوية والتنظيمية، فبسطت سيطرتها على مناطق نفوذ الجبهة الشامية وحركة حزم، كما سيطرت على كثير من الآليات والمعدات والأسلحة الخاصة بهما، وخاصة صواريخ التاو التي كانت تمتلكها حركة حزم، والتي كان لها الأثر الأكبر في حسم معركة جسر الشغور.
"أدى القضاء على جبهة ثوار سوريا وحركة حزم على يد جبهة النصرة إلى تعزيز موقف المعارضة المسلحة في محافظة إدلب، كما سيطرت على كثير من الآليات والمعدات والأسلحة الخاصة بهما وخاصة صواريخ التاو التي كانت تمتلكها حركة حزم، والتي كان لها الأثر الأكبر في حسم معركة جسر الشغور"
كل ذلك جعل من جبهة النصرة الرقم الصعب في محافظة إدلب، مما دفع بقية الفصائل المسلحة للتنسيق معها وتشكيل جيش الفتح، وتأسيس غرفة عمليات مشتركة فاعلة تمارس القيادة والسيطرة والتخطيط للمعارك وإدارتها، فتحقق للثوار توحيد الجهد والقيادة والتخطيط وتحديد أولويات الأهداف.
رغم التعزيزات الكبيرة التي أرسلها النظام السوري إلى محافظة إدلب وإرسال العقيد سهيل الحسن لقيادة العمليات العسكرية فيها، فإنه لم يتمكن من مواجهة الإستراتيجية العسكرية لجيش الفتح والتي تميزت بعمليات متزامنة معززة باستخدام مكثف للانغماسيين والانتحاريين، مما مكنهم وفي زمن قياسي من السيطرة على معسكري الحامدية ووادي الضيف، وإجبار قوات النظام على التراجع إلى خان شيخون ومورك.
يبدو الارتباك السمة الأبرز لإدارة العمليات العسكرية لقوات النظام، ومما ساعد على تعميق تلك السمة انطلاق عمليات عسكرية حاسمة في ريفي القنيطرة ودرعا، وحرب عصابات ناجحة في القلمون الغربي، وإنجازات مؤثرة في ريف حلب الشمالي، بالإضافة الى معارك مطار دير الزور.
عدّل الجيش الحر جزئيا في إستراتيجيته العسكرية في معركة مدينة إدلب، فهاجمها من الجهات الأربع حيث سيطر على الطوق الخارجي لحواجز النظام ثم الطوق الداخلي منها، مع التركيز على الاحتفاظ بزمام المبادأة وإدامة زخم الهجوم، فتمكن المهاجمون من الوصول إلى المربع الأمني خلال ساعات، مما حوّل انسحاب قوات النظام إلى هزيمة وفرار للقادة الرئيسيين، حيث أعادت تلك القوات التجمع لاحقا في حاجز القرميد ومعسكر المسطومة بينما انسحبت قوات النخبة إلى جسر الشغور.
بذلت قوات النظام السوري جهودا كبيرة لإعادة تجميع صفوف قواتها وتعزيزها بقوات إضافية خاصة في حاجز القرميد ومعسكر المسطومة وبلدة أريحا باعتبارها الهدف الأقرب والتالي لجيش الفتح، ولكن قوات المعارضة المسلحة فاجأت قوات النظام بشنها أربع عمليات عسكرية متزامنة على حاجز القرميد ومعسكر المسطومة وجسر الشغور وسهل الغاب، مما أفقده القدرة على تحديد اتجاه الجهد الرئيسي واتخاذ الإجراء اللازم في الوقت المناسب لمواجهته.
ركزت قوات النظام جهدها الرئيسي على القرميد والمسطومة معتقدة أن الجهد الرئيسي يتوجه إليهما، في حين اعتبرت (وكانت مخطئة) أن جسر الشغور آمنة بسبب الطبيعة الجغرافية الحاكمة وتواجد قوات كافية للدفاع عنها، فسقطت مدينة جسر الشغور وبلدة إشتبرق الواقعة إلى الغرب منها، بينما نجحت الفرقة الساحلية وقوات معركة النصر -وفي وقت متزامن- من السيطرة على بلدات السرمانية والقاهرة وتل واسط ومحطة زيزون ومعسكر الزيارة الرئيسي، بالإضافة إلى السيطرة على 25 حاجزا عسكريا، ولا تزال تواصل تقدمها باتجاه معسكر جورين.
"تتحكم جسر الشغور بطريق الإمداد الرئيسي القادم من اللاذقية إلى حلب مرورا بأريحا وسراقب، والسيطرة عليها تعني توقف عمليات الإمداد البري لكافة قوات النظام المتبقية في محافظتي إدلب وحلب وريف حماة الشمالي، مما يجعلها محاصرة من المعارضة المسلحة"
وبالتزامن مع ذلك وفي الجهة المقابلة، تحقق بقية الفصائل المشاركة مع جبهة النصرة إنجازات كبيرة في حاجز القرميد ومعسكر المسطومة اللذين لم يتبق منهما تحت سيطرة قوات النظام إلا أجزاء بسيطة.
هذه التطورات وضعت النظام في موقف صعب، وبدت عليه ملامح الارتباك والتخبط واضحة، إذ بدأ بسحب قواته من مناطق عدة في ريف حماة والتي لم يعد قادرا على مؤازرتها، كما توقف عن إرسال الإمدادات الى معسكري القرمي والمسطومة خوفا من تسارع تقدم الثوار وخسارته لتلك القوات.
تتحكم جسر الشغور بطريق الإمداد الرئيسي القادم من اللاذقية إلى حلب مرورا بأريحا وسراقب، والسيطرة عليها تعني توقف عمليات الإمداد البري لكافة قوات النظام المتبقية في محافظتي إدلب وحلب وريف حماة الشمالي، مما يجعلها محاصرة ولا مجال أمامها إذا طال أمد الحصار إلا الاستسلام أو انتظار رصاصة الرحمة من المعارضة المسلحة.
كما أنها تفتح الطريق جزئيا إلى القرى العلوية في جبال اللاذقية حيث أصبحت قوات المعارضة على بعد أقل من 30 كلم عن بلدة الحفة، و46 كلم عن مدينة القرداحة مسقط رأس حافظ الأسد، و57 كلم عن مركز مدينة اللاذقية.
يضاف إلى ذلك أن استمرار تحقيق النجاحات في سهل الغاب (الذي يعتبر حلقة الوصل بين ثلاث محافظات إدلب شمالا واللاذقية غربا وحماة جنوبا) والوصول إلى معسكري الزيارة وجورين والسيطرة على عقدة المواصلات فيهما (وهما خط الدفاع الأول عن القرداحة)، يسمح بتنفيذ مناورة إستراتيجية نحو الصلنفة في ريف اللاذقية من ناحية قرى الجيد والرصيف وشطحه، مما يهدد الخزان البشري لقوات النظام ومعقله الرئيسي.
كما أن السيطرة الكلية على حاجز القرميد ومعسكر المسطومة يسهل المهام اللاحقة ومنها بلدات كفريا والفوعة الشيعيتين، ويسهل الوصول إلى مطار أبو الظهور شرقا ومحاصرته تمهيدا للسيطرة عليه، وخان شيخون جنوبا مما يفتح الطريق إلى ريف حماة الشمالي.
هذه الإنجازات الميدانية والعملياتية في الوسط الغربي من الجغرافيا السورية، إذا أضيفت إليها النجاحات الكبيرة في مثلث الموت (المنطقة الواقعة بين ريفي القنيطرة ودرعا وريف دمشق الغربي)، والسيطرة على بصرى الشام ومعبر نصيب ومحاصرة مطار خلخلة في ريف السويداء والمعارك الناجحة في مرتفعات القلمون الغربي والشرقي وبدء معركة فتح حلب، وسيطرة تنظيم الدولة على محافظة الرقة ودير الزور وأجزاء واسعة من ريف الحسكة، تقدم دليلا واضحا على أن النظام السوري بات في أضعف حالاته منذ بدء الثورة.
"رغم مكابرة النظام وعدم اعترافه بهذه الخسائر الكبيرة المتتالية وتقديمه تبريرات غير مقنعة حتى للمؤيدين له، فإنه يعلم أنه بدأ يدخل عنق الزجاجة، خاصة إذا نجحت المعارضة في تنسيق جهودها في الجنوب والوسط والشمال"
كما أن قواته أصبحت عاجزة عن استعادة المبادرة على المستويين العملياتي والإستراتيجي، وغير قادرة على كسب أي معركة حاسمة على المستوى الميداني، رغم كل أنواع الدعم المقدم لها سواء من إيران متمثلا في تولي مسؤولية قيادة العمليات العسكرية في درعا والقنيطرة وبصرى الشام، أو إرسال المقاتلين الإيرانيين من الحرس الثوري وقوات الباسيج وبعض الشيعة غير الإيرانيين خاصة من الهزارا (اللحم الرخيص)، أو من مقاتلي حزب الله وبقية الفصائل الشيعية الأخرى.
لذا سيسعى النظام إلى تحديد أولويات جديدة في إدارة معركته الدفاعية، بحيث سيركز على تحصين العاصمة دمشق وتأمين النطاق الحيوي لها من أي عملية اختراق كأولوية أولى، ثم تأمين مدن الساحل ومدينة حمص ليبقي على تواصل جغرافي بينهما وبين العاصمة السياسية، انتظارا لتغير الظروف الميدانية من خلال تعزيز قدراته القتالية من قبل حلفائه.
ورغم مكابرة النظام وعدم اعترافه بهذه الخسائر الكبيرة المتتالية وتقديمه تبريرات غير مقنعة حتى للمؤيدين له (إعادة انتشار ناجح في محيط جسر الشغور، إيقاف القتال لدخول شهر رجب الحرام.. إلخ)، فإنه يعلم أنه بدأ يدخل مرحلة عنق الزجاجة، خاصة إذا ما نجحت المعارضة المسلحة في تنسيق عملياتها العسكرية على المستوى الإستراتيجي بين القوات العاملة في الجنوب والوسط والشمال.
وإن تحقق ذلك فإنه سيضع ضغوطا قوية على النظام تجبره على تقديم تنازلات كبيرة إذا قدر لمؤتمر جنيف-3 أن يُعقد (لأن البديل عن ذلك قد يكون رأس النظام وأركانه). وبعيدا عن التفاؤل، قد يُجبَر النظام على قبول مقررات جنيف-1 بحيث لا يكون للأسد وأركان نظامه أي دور في مستقبل سوريا.