سيناء والعمال وخطاب الصبر في الحاضر من أجل المستقبل

سبت, 2015-05-02 06:42
عبير ياسين

ربما يكون من الطبيعي أن يرتبط خطاب الرؤساء والسياسيين باللحظة الزمنية بالقدر نفسه الذي يرتبط فيه بالحدث المباشر وتطلعاتهم المستقبلية. وفي الكثير من الأحيان يتم التعامل مع الحدث المباشر بوصفه مجرد مدخل إلى موضوع آخر يرغب السياسي في التأكيد عليه أو طرحه ووضعه على أجندة الجدل العام والنقاش السياسي، أو المعركة السياسية أو الانتخابية المطروحة خلال الفترة الزمنية المحيطة بالخطاب المقصود.
ولأن الحديث عن الخطاب السياسي فمن المهم أن نتذكر فضيلة الشك وقيمتها في التعامل مع ما يقدم من وعود وبرامج، فالشك فضيلة مهمة في إطار الإصلاح السياسي والتأسيس الديمقراطي، عندما يتم التجاوز عن فكرة الثقة المطلقة والتعامل من خلال فكـــرة أساسية، وهي أن السلطة مفسدة والسلطة المطلـــقة مفسدة مطلقة.
تبدو فضيلة الشك واضحة عندما يرتبط الخطاب باحتفالات سنوية على طريقة احتفالات تحرير سيناء وعيد العمال في مصر، التي تكرر فيها خلال عقود ما قبل يناير، الحديث عن الإصلاح والتنمية والخطط المقبلة والخطط التي تنفذ على الأرض، وأوضاع المعيشة وتحسنها، وظروف الصناعة والعمال وتقدمها، بالإضافة للعديد من الوعود المستقبلية التي تتحدث عن العالم الأكثر اشراقا وعدلا. ووفقا لكل تلك الخطابات والوعود كان يفترض أن تتوقف وعود التنمية بعد عدة سنوات بافتراض تحقق المشاريع فعليا على الأرض، ووصول الخدمات لمستحقيها. وهو الأمر الذي لم يحدث فظل خطاب الوعود يتكرر من عام إلى عام وكأنه طقس من طقوس الاحتفال. وربما تخوف السياسي من غياب موضوع للخطاب إن تحققت التنمية بالفعل، بما يهدد إقامة الاحتفالات وما يصاحبها من هتافات التمديد والتفويض، وهو أمر يمكن أن يجد موقعه وسط الحديث عن سخرية الشعب المصري من نفسه وعليها، فكيف نخاطر بخسارة فرصة للسخرية.
بدورها جاءت ثورة 25 يناير، لتؤكد حقيقة الفجوة القائمة في ظل ما كشفت وتكشف عنه من فساد وإفساد ومشاكل متنوعة، تبرز الفجوة بين الإنجازات المعلنة والوعود الكلامية والواقع المعاش. وفي سياق الاحتفالات التي شهدتها مصر بمناسبة عودة سيناء وعيد العمال في أبريل 2015، وهي احتفالات لها طقوسها السنوية الخاصة، من المثير العودة للخطاب الأخير للرئيس الأسبق محمد حسني مبارك في عيد تحرير سيناء في 2010، على ضوء ما جاء في خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي في عيد العمال. وجه مبارك في خطابه الشكر للشعب المصري لدعمه والوقوف بجانبه خلال رحلة علاجه في الخارج، ولكن هذا الدعم الذي أشار إليه وما اعتبره تعبيرا عن محبة وتقدير الشعب لم يمنع من الثورة عليه بعدها بعدة شهور، ولم يحل دون تنحيه قبل مرور عام على خطاب الشكر والامتنان. 
خطاب مبارك وما أحيط به من ظروف وتبعه من تطورات، مهم للمستقبل ولكل حاكم ومهتم بقراءة علاقة الشعب بالحاكم، وربما لهذا طرح نفسه مع حديث السيسي عن «نظرة المحبة» التي يراها، وتأكيده أنه سيغادر السلطة إن غابت. لا أعرف مصدر تلك النظرة أو كيفية حسابها والاعتماد عليها، ولا طبيعة الجمهور الذي يتعامل معه الرئيس ويمكن من خلال نظرته أن يقرر أن يظل أو يغادر السلطة، ولكن ما تؤكد عليه تجربة مبارك ما بين خطاب الشكر وخطاب التنحي، والثورة التي حدثت بينــهما، أن كلمات الشكر مثل نظرات المحبة قد تعبر عن لحظة وعن جزء محدد من تقييم الحكم أو الحاكم، أو الظروف الحاكمة، كما كانت ظروف مرض مبارك، ولكنها لا تسمح بالتعميم ولا يمكن الاعتماد عليها كمؤشر حقيقي للشعبية المستمرة عبر الوقت والظروف المتغيرة.
أما ما يمكن الاحتكام إليه فعلا ويبدو غائبا أحيانا كثيرة عن المشهد المصري، فهو سيادة القانون، بمعناه الحقيقي الذي يتجاوز تكرار الحديث عن احترام أحكام القضاء إلى احترام فكرة العدالة نفسها والمساواة أمام القانون وإصلاح نظام التقاضي، ووجود إنجازات حقيقية يمكن للمواطن الشعور بها بشكل ملموس، بالإضافة إلى سيادة المحاسبة والشفافية، بدون تقديم مدد انتظار مفتوحة الأجل للمسؤول، وبدون اللجوء المتكرر لخطاب الإرهاب والحرب عليه بوصفها مبررات كافية لتجاوز الانجازات الفعلية المطلوب تحققها على الأرض.
ما سبق من أطر يمكن أن تكون حاكمة لواقع ديمقراطي أو على طريق الإصلاح السياسي لا يعرف ما سماه السيسي في خطاب عيد العمال بكرامة الرئيس، التي تحول بينه وبين أن يحكم الناس بدون رغبتهم. ولأن القرار في الدول الديمقراطية لا يخضع للحاكم ولا للطريقة التي يقرأ بها مشاعر مواطنيه ولا يعتمد على العلاقة المتصورة بين كرامته ورغبة الجماهير، فقد التزمت تلك الدول – إلى درجة كبيرة- بتقديم برامج انتخابية يتم الإشارة إليها بشكل متكرر والتركيز على ما تحقق منها وما لم يتحقق وأسباب عدم تحققه، كما تخضع للتقييم من قبل الأطراف المختلفة بشكل عام، وخلال الانتخابات بشكل خاص. وهو واقع بعيد عن خطاب الرئيس الذي أكد أن الحديث عن البنـــية الأساسية وسرعة الانتهاء منها لا يقصد منه أن يكون الناس سعداء، ولكن أن يتم توفير الطاقة والمجهود، وهو تصريح من الغريب أن يصدر عن سياسي وأن يصدر في واقع مثل الواقع المصري، وفي ظل حديث الرئيس عن حاجة المواطن لمن يأخذ بيده ويهتم به.
تبدو أحاديث السيسي المشار إليها بوصفها جزءا من حديث ممتد، فهناك واقع أساسي أنتج كل التطورات، لا يمتد لواقع ما قبل 25 يناير بقدر ما يبدأ من واقع ما قبل 30 يونيو. تناول يبدو واضحا في الحديث عن تحرير سيناء، بدون الإشارة لدور الرئيس الراحل محمد أنور السادات وكأنها محاولة لتجنب الجدل حول الإشارة لدور مبارك من عدمه. في الوقت نفسه فإن التحدي الأساسي، وهو الإرهاب، يتم ربطه بصورة أقرب بجماعة الإخوان، وبشكل غير مباشر بثورة يناير التي أوصلتهم للحكم. ومع خطورة الإرهاب الذي تم التركيز عليه عبر الاحتفال بعيد العمال في أكاديمية الشرطة في خطوة غير مسبوقة في الاحتفالات العمالية السابقة في مصر، يصبح من الطبيعي للرئيس التركيز على خطاب تهديد وجود الدولة المصرية، التي لن يستفيد منها أحد أن سقطت. خطاب من الصعب أن يستهدف الإرهابي باعتبار أن الإرهاب لا يهتم ببقاء الدولة التي يستهدفها بالصورة التي تعرف بها، وهو ما يجعل الخطاب موجها أكثر للمواطن المصري. ولأن الدولة مهددة فالمواطن عليه أن يستمع للجزء الخاص بالمطالب التي تفرض عليه أن يتقبل الأوضاع الصعبة وأن يصبر على الحكومة حتى تقوم الدولة على قدميها، على الرغم من أن الحكومة الفاشلة يمكن أن تعظم أثر الإرهاب أو تسمح له بالتأثير بدرجة أكبر أو تصبح عاملا مضافا في عملية السقوط. ولكن المواطن المطالب بإن يصبر على الحكومة لمدة عامين، كما يتكرر أو ما يزيد، يبدو أن عليه ضمنا الصبر على مواصفات المشهد القائم من حاكم وحكومة ومعاناة.
ولأن المواطن لا يمكن أن يقبل وصفة المعاناة بلا مقابل، فإن عليه أن يستمع للعديد من الأرقام التي تظهر من خطاب لآخر ومنها أرقام المواليد وعدد الشقق السكنية التي سيحتاج إليها مواليد المستقبل القريب، وضرورة الصبر من أجل توفير تلك الاحتياجات في المستقبل المتوسط أو البعيد. ورغم ضرورة التفكير في المستقبل، يظل السؤال عن الحاضر والمستقبل القريب مطروحا. فإن كان هناك احتياج للأطفال في المستقبل عندما يكبرون فإن هناك احتياجات لا يجدها شباب الحاضر ولا تتم الإجابة عليها إلا بخطاب الانتظار الممتد. وفي النهاية يظل من السهل للسياسي أن يقدم وعودا للمستقبل ويظل من الصعب للمواطن أن يظل في انتظار شيك مفترض أن يكون مستحق الصرف في المستقبل، شيك لا يملكه ولا يملك أن يعرف ما سيحصل عليه أن وصل لهذا المستقبل.
يرى البعض أن الإشارة إلى وجود سلبيات لا يصلح الحاضر، وقد يكون لديهم بعض الحق في هذا، ولكن بدون الإشارة لوجود سلبيات تظل المخاطرة قائمة بإن يكون المستقبل امتدادا ما للماضي والحاضر بكل السلبيات التي نعرفها، خاصة أن الايجابيات يتم تقليصها مع الوقت على طريقة جورج أورويل في رائعته «مزرعة الحيوان». إن أغفلنا الحاضر وسلبياته سيكون من الصعب أن نتذكر أهداف الثورة وهي تتعرض للتغيير والأحلام وهي تتعرض للترشيد، حتى أن سعادة المواطن تصبح فكرة ضمنية خاطئة يتم تفسيرها سريعا حتى لا يتصور أحد أن سعادته تخص السلطة التي تمارس دورها في تذكيره بحقوقها وواجباته، وأهمها الصبر عليها من أجل حماية الوطن وكأن المواطن مجرد رقم زائد عن الحاجة خارج صناديق الانتخابات عندما يكون من المهم حساب الشعبية أو البحث عن نظرات المحبة أمام الكاميرات.