تطور المشهد السياسي في المغرب سريعا، وعلى نحو دراماتيكي، لم يكن متوقعا، بعد انسحاب رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، من جلسة شهرية دستورية، يحضر فيها للإجابة عن أسئلة المعارضة. وليست واقعة الانسحاب بمعزل عن سياقات كثيرة وتفاعلات سابقة، كان أهمها محاولات لنيل الخصوم السياسيين من مصداقية وزراء حزب العدالة والتنمية، والتشكيك في أدائهم، وسقوط بعضهم، كما حال قصة حب الوزيرين، في محظور سياسي وأخلاقي، بالسير عكسا ضد اختيارات اجتماعية للمغرب، بالحد من ظاهرة التعدد، لانعكاساته الاجتماعية، وكونه مطلب الحركة النسائية المغربية، توجته المقتضيات المشددة، المنصوص عليها في مدونة الأسرة. ولكن، ما يقع اليوم من نقاش سياسي هابط، ومن شراسة في المواجهة بين وزراء "العدالة والتنمية" والأطراف السياسية الأخرى في المعارضة، يعود، في الجزء الأكبر منه، لا إلى خلاف حول الخيارات الكبرى، فالمغرب مرتاح لوجود الإسلاميين في الحكومة، والسلطات العليا في البلاد تطبق الدستور، وتقف من جميع الفرقاء على مسافة واحدة. حتى أنه لما رفعت المعارضة مذكرة للملك محمد السادس، طلبا لتحكيمه، بعد أن أفرط بنكيران في استعمال اسم الملك في خطاباته وتجمعاته الحزبية، أمر الملك مستشاره، فؤاد عالي الهمة، ببحث هذه الاعتراضات مع المعارضة ومع رئيس الحكومة، وربما جرى التنبيه إلى عدم حشر اسم الملك في مناخ انتخابي حساس جدا، لا من هذا الطرف ولا من ذاك. والتقط بنكيران الرسالة جيدا، وخرج على الفور يردد أنه لن ينسحب من الحكومة، لأي سبب، وغير مستعد لتسليم الوزارات إلى المعارضة الحالية التي لم يترك وصفا قدحيا إلا وألصقه بها. بالنسبة للمتابع الخارجي، سيجد في الأمر علامة على أزمة سياسية في المغرب، تكبر مثل كرة الثلج، لكنه في الواقع تمرين يومي، ألفه المتابع للشأن السياسي في البلاد، منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكومة. فقد تلقت الأحزاب الكبرى ضربة قاصمة في الانتخابات التشريعية الماضية، وحين وقعت إزاحة الإسلاميين في أكثر من تجربة، تمنت القوى السياسية أن يقتدي المغرب بالجوار، لكن السلطات العليا كان لها رأي آخر، سيؤدي إلى استمرار "العدالة والتنمية" وإسناده بالوثيقة الدستورية، من دون أن يعني ذلك محدودية هامش المناورة اجتماعيا واقتصاديا أمام حكومةٍ تسعفها، في الوقت الحالي، "مصادفات" السياق الدولي، بانخفاض أسعار النفط، وسخاء الطبيعة، بموسم فلاحي قياسي، وسياسيا استقرار داخلي في محيط عربي مضطرب. لهذا، تستمر حكومة بنكيران، كما أن السلطات العليا في البلاد تركت المجال السياسي مفتوحا أمام الجميع، بنأيها دستوريا، عن التدخل فيه، وربما ستشكل الانتخابات البلدية التي ستنظم في سبتمبر/أيلول المقبل، بروفة لحجم حزب العدالة والتنمية، ومدى قدرة أحزاب المعارضة الحالية على العودة للمشهد الانتخابي، والحكم عن طريق صناديق الاقتراع، وما تمليه شروط اللعبة الديمقراطية. وليس غريبا أن ينجر النقاش السياسي إلى مستويات السوقة والتهريج، والترغيب والترهيب وتبادل الضربات تحت الحزام. فالساحة المغربية تآلفت مع كل هذه الأشكال والمسوخ، وإذا كان من عقاب لتمييع المشهد، فسيكون عزوف الناخبين عن التوجه يوم الاقتراع للإدلاء بأصواتهم، شكلاً من الاحتجاج على تردي مستوى الخطاب السياسي، وحينها، يكون الخاسر الأوحد، ليس "العدالة والتنمية" الذي له شريحته الانتخابية المحصنة، بل الأحزاب الأخرى التي تعوّل على وعي الطبقة الوسطى، وهي الطبقة الغاضبة، الغائبة من مشاريع كل الأحزاب، وسوط العقاب سيأتي منها.