شعار «الدولة العصرية»… وماذا عن مجتمع التنوير؟

اثنين, 2015-05-11 19:07
مطاع صفدي

هل أصبحت بعض الأنظمة العربية الحاكمة قادرة على تغيير ذاتها؛ ومن تلقاء ذاتها، أي بفكرها وإرادتها ومن دون أية عوامل خارجة عن فهمها لخصوصية مشاكلها.
هل أصبح لمصطلح ثورة القصور ثمة تطبيق واقعي في تجارب التحولات الفوقية في بعض البيئات الحاكمة العريقة والمستقرة فوق كراسيها العالية منذ عقود. فما يحدث لأكبر وأقدم هذه البيئات، وهي المملكة السعودية من إعادة توزيع مراتب السلطة بما يناظر تعديلات جديدة لمعايير وتراتبيات مقامات رجال الأسرة من المتنفذين سابقاً ولاحقاً بالنسبة لرحيل الملك المتوفّى وتنصيب وريثه الملك الحالي. وقد انطلقت أهم متغيرات هذه المرحلة الانتقالية مع لحظة التسلم الفوري لمقاليد السلطة الفعلية، وبروزها إلى العلن مع تعيينات المناصب الوراثية للعهد الحالي فجاءت هذه ـ التعيينات ـ مغايرة لقواعد التوريث المتبعة ما بين عهود ملوك الأسرة منذ مؤسسها الأول، فكان الجديد المغاير والأهم في رحلة ثورة القصر هذه، فريدة نوعها، هو كسر مبدأ حصار الحق في ولاية العهد على الأولاد (من أبناء الملك المؤسس عبد العزيز الذين توارثوا الحكم عن بعضهم تباعاً، بحسب السن من الأكبر إلى الأصغر، و بفضل مؤثرات أخرى من قوى النفوذ الشخصي للبعض دون الآخرين). 
ثورة القصر السعودي لم تأتِ فحسب بوريث للعرش، أي مجرد ملك تقليدي. فهو الرجل الذي كان أشبه بشريك مستدام في الحكم، في السر والعلن، لكل اخوانه المتوالين من ملوك الخمسين عاماً وأكثر الماضية. أي أن هذا العاهل لا يمتلك فحسب ذاكرة الأسرة الحاكمة بوقائعها المؤسسة للسلطة، الظاهر منها أو المحجوب عن الجمهور العام. ولم يكن مجرد مراقب أو شاهد، بل هو الرجل الأقرب لأهم قرارات ملوكها والمشارك في مسلسل تحولاتها الذاتية والعمومية،ها هو يصل أخيراً إلى مركزية الرجل الأول في الأسرة والدولة، في هذه اللحظة الاستثنائية من أخطر وأصعب مصائر المنعطفات السياسية الكبرى بل الوجودية ليس للدولة السعودية وحدها أو لجزيرتها العربية بل لمجمل الكيان القومي للأمة جمعاء. يجيء عصر هذا الملك، وكأنه مدعو لإنجاز أدوار تاريخية لم تعهدها سير ملوك المرحلة المنقضية كلها، إلا بما قد تذكر بأعباء لحظة تأسيس الدولة، الأولى. إنها حقبة للتأسيس الثاني بما سيكون للدولة فيها فلسفة حكم واستراتيجية سياسية ودفاعية واقتصاد وثقافة مختلفة عن نماذجها المعتادة في عهود الأمس القريب والبعيد. 
هي الأدوار الشاقة التي يمكن وصفها بكونها أضحت نتاجاً موضوعياً لواقع الظرف المحلي والإقليمي والدولي الراهن، إنها أدوار جاهزة للفعل والتنفيذ، لكنها كانت أدواراً فارغة من أبطالها، كأنها بانتظار من سوف يستجيب لتحدياتها، ويأخذ على عاتقه تحقيق ضروراتها المطلقة. وفي مقدمة هذه الأدوار يبرز السؤال عن فلسفة الدولة، وكيف يمكن لدولة الأسرة أن تصير دولةَ أمةٍ ناهضة وحقيقيةً؛ فما يمنح الأمة حقيقتها ليست الأرقام الفلكية لميزانية حكومتها، ولا أعداد المتمولين من أفرادها، بل هي مبادئ المواطنية العادلة لمختلف أعضائها أفراداً وجماعاتٍ متنوعةً. فالسعي وراء شعار بناء الدولة العصرية يوجب على حامليه أولاً أن يرعوا ثقافة الحريات اليومية للجميع. أن يبنوا ويحموا مجتمعات الناس الأحرار بديلاً عن معاقل وهوامش الأتباع وقطعانهم. 
أول الأدوار المنتظرة لرجالها هو وضع تصاميم الإصلاحات لبناء وتحيين شعار الدولة العصرية. نقله من مستوى الحقبات السياسوية إلى مختبرات اجراءات الهندسة التطبيقية لمؤسساتها. لم يعد مفهوم العصرية مستنفداً في إعمار الصحارى الرملية بل في إعادة إحياء الصحارى البشرية وإنقاذها من عقولها القروسطية، التي تفاجئ الأزمان الحديثة بتصدير أوحش نفايات القرون الأولى.
(الإصلاح) للعقل العمومي هو الهدف الأصعب. الذي قد تعجز عن تحقيقه حتى الثورات الفورية. وهو اليوم. يواجه أوج الصخب والغضب العارم لأدهى الردّات الظلامية؛ كأنما، لا بد لكل حركة مبدئية من ازدواجها ببنية نهضوية بديلة، ومؤسّسة لدعامة أخرى من دعائم المجتمع العصري، وليس لدولته العصرية وحدها. فالتحول القادم قد ينطلق بفضل دولة سلطة تنويرية. لكن لن تقوم له قائمة أن لم تنخرط في إعصاره أعمق ما يقابله من جذور المجتمع السادر.
والحقيقة فإن ما كانت توصف به الدولة السعودية من المحافظة الشديدة، ومآل بعض تياراتها الدينية إلى التطرفات الهدامة، هو هذا الوصف عينه الذي يستنفز أهم دواعي (ثورة) الإصلاح السياسي والديني لمشروع الدولة العصرية، وقد أمسى هو المطروح راهنياً أمام العهد الملكي الجديد، ومعه كل أهل الحل والربط في مجتمعه، وربما إزاء أوسع رأي عام عربي، ودولي إلى حد ما. هنالك حالة رقابة وانتظار شاملة تقريباً لنادي السياسة العالمية، في التقاط مبادرات العهد الملكي الجديد.
وقد يكون إطلاق حرب اليمن كجبهة مهددة للجزيرة العربية. يؤلف تجربة شاقة لاجتماع رهانات متناقضة حولها من قبل الأصدقاء والأعداء معاً؛ فالتجربة هذه حافلة حتى الآن بوقائع ورموز قد تتحول إلى خصائص معينة تطبع مستقبل تجربة العنف الخطيرة هذه، لن تكون آثارها وتداعياتها إلا شاملة لحقبة «الربيع» في شتى عناصرها، وجغرافيته السياسية أو المدنية القادمة.
التحولات العربية العامة لم تعد تقع بفعل عواملها الذاتية، فهي تفاجئ وتتحقق وتخلّف آثارها، لكنها غالباً ستكون مقترنة بظواهر العنف الكبرى، ومنها أخبثها من أصناف الحروب والمقتلات الجماعية وفظائعها. ذلك الواقع يتحول الى شبه قانون. وبراهنيته مستقلة حتى اليوم من تجارب هذا الربيع المحكوم عليه ألا ينتج زهرة إلا وهي محفوفة بغابة أشواك وعوسج. إلى متى..
يراد لهذه الجبهة أن تنصب فخاً لتتساقط في وحوله ليس السعودية أو تجربتها الملكية الإصلاحية الجديدة، بل قد تجذب إليها إيران في حال تعثر الإتفاق النووي بينها وأمريكا. وكذلك يتوقع بعض غلاة المتشائمين أن تفتح جبهات متنوعة في مواجهات مع دول الخليج مباشرة. فالمخيف حقاً في هذه الجبهة أنها مدخل لتعميم النيران في أنحاء الجزيرة العربية، بحيث تخرج السلاسل اللاهبة عن إرادات محركيها أنفسهم. فتغدو الأهوال أسباباً ونتائج لبعضها بعضاً. فلا سبيل لتدخل أنقى الإرادات الخيرة في أوقاتها المناسبة.
من هنا لا بد أن تعي حركة «الإصلاح في السعودية» أن مشروع «الدولة العصرية» إن كان له قرار حازم في شن الحرب، عليه كذلك أن يبرز حزماً مضاعفاً من أجل إخمادها. فالانتهاء من كوارث هذا الفخ المرعب هو باكورة إعادة السلام المحلي والإقليمي، والتكفل باستعادة الطريق إلى سلام الأمن القومي، لكل العرب، وجيرانهم المسلمين، ومنهم إيران نفسها. ليس ذلك بالأمر المستحيل إن حسنت بعض النوايا تحت سلطة إرادة إقليم عربي إسلامي متضامن ومستقل.