سيّد الجونيات المُنفلتة

خميس, 2015-05-14 15:09
الكاتب عالي الدمين

حينَ أعيد الآن التفكير، في شخصيتِه العجائية، أراهُ في ذاكرتي راسخاً بشكلِه المُضحِك: وجهه الكرويّ، الممسوح الملامِح. لحيته الفوضوية الكبيرة التي أخذ البياض الشيبيّ يطبع جُلَّ مساحتها. وكذلك، فمه الوحشي الخالي من الأسنان، وثيابه الأربع-فصولية القليلة، المُتسخة على الدّوام. وهي قميصٌ تيشرتي واسع، احتوى كرشه الضخم. وسروال ضيّق قصير ينتهي عند الركبتين، ماجَعله يبدو نسبي الستِّر لشخصٍ مثله في السن والحجم. بحيثُ أنّك إذا مارميتَ بنظرك نحو مايُسمّى: بؤرة العورة الساخنة، عورتِه الذكريّة، تبيّنت لك المعالمُ ومراكِز الأعضاء في وضوحِها الصادِم الأفضح، وهو لايُبالي بنظرات الغير وأحكامه إزاء تصرفاتِه وأقوالِه، ولايعي أنه لايُبالي، لكنه هكذا هو. لايسأل لماذا؟ أحرى يدري.
تراهُ يمشي ببطء سُلحفاتي عجيبٍ، تشكُّ أنَّ صاحبه يتقدّم خطوةً واحِدة نحو الأمام، تأخذ تقدّمها المساحاتي الفارِق، بالقياس على المكان الأرضي الكائِن فيه ساعتَها. لكنه مع كُل ذلك سيصل لمرادِه وجهتِه المُبتغاة، رغم شدّة الهجير وتركامات التربة في ثقلِها الطبقاتي الحائِل.
**
كنّا نُسميه " زُوبَّه". أو هكذا خرج لوجودنا بذلك الاسم. ليجري اسماً له أيضاً عندنا. إنه شخصية طفولتنا العجائبية. كان على باب السبعين في تمرحله الحياتي آنذاك، حين عرفناه لأوّل مرة، وهو يقدمُ على حيّنا القروي التراحمي ليتسوّل. ويطلبُ الصدقة، التي بها كان يعتاشُ هو ووالدته العجوز، ذات التسعين صيفاً.
لم يكن، يُجاري الكِبار، الذين ينتمي لعالمهم العُمري، في أيِّ شيء، تصرفاً كان أو قولاً. كُنّا معشر الصِغار زمنذاك، ننتظرُ قدومه اليومي لحيّنا، فنستفيق باكراً، كعادتنا الديكيّة، ونذهب لنقفُ على مُقدمة باب الحي، حتى إذا مالمحناه قادِما، جرينا نحوه نتسابق، ونحنُ نصرخ بايقاعي فرِح: زُوبّه، زُوبّه. زُوبّه. وهكذا إلى أن ندخل جميعاً الحيَّ، لنتقدّم معه مُصاحبين بعد ذلك، صوب كُلَّ خيمة، لكي تعطيه ماجهزته له لذلك اليوم الجديد، رغم تكرارية السنون له، من الصدقة العَطائية، التي في العادة تكون: خُبزا محلياً، بعض السُّكر، بعض الأرز، بعض الخُضرواتٍ، بعض الحليب الرائب. وما يصلحُ للاستخدام المُباشر حين يرجعُ به لعريشه هو ووالدتِه المُتواضِع. بعيداً عن الوسائط الأخرى، كالنقود، التي كان يرفضُ استلامَها كعطيّة صَدقية.
كان السيناريو اليومي له، أنه يمرُّ على كُلَّ خيمةٍ، بأسرتِها، بعد أن تكون أصواتنا الصراخية حوله قد وصلَت لها قبل دخوله، لتعلمَ كإنذار مُزعِج بدنوِّه من حُدودِها. فتُعطيه حين يدخل عليها صدقة ذلك اليوم التي جُهزِّت له قبل مجيئه، وتسأله الدّعاء بعد ذلك حول قضايا شئونيَّة تخصها. فينفِذَ ماتطلبُ منه بطيبِ خاطِر، ويطلبُ الله لها بصوتِه الجهوري الطبع، و المُختلِط في نطقه المُضحك للحروف، نظراً لخلاء فمّه الوحشي الواسع من الأسنان. فالناسُ هُناك، يعتقدون أنه مجذوب ووليٌّ صالح، رغم المُنكرات الهرطقية التي يُمارس ويهذي بها أحياناً، حول الله، والدين، والعرف، والجنس. وبعض المُعتقدات الدينية والاجتماعية المُقدّسة، المُحاطة بسور تحريمي من الرصاص والحديد الفولاذي، في أذهانِ النّاس.
الأمرُ الذي لم يُحدِث تغييراً موقفياً نحوه، على الإطلاق، فالجميع هُناكَ، في الحيّ، صِغاراً وكِباراً، إناثاً وذكوراً، مُتقين وفاسقين، بيضاً وسُوداً. يُحبونه، لمايضفيه وجُوده الجذبي على حياتِهم من الفرحة المجهولة المصدر، والطاقة الغريبة. الباقية مادام موجوداً، إلى أن يغيبَ من أمام أعينِهم، مُخلّفاً ذكرى حماقاته الصبيانية، وتصرفاتِه، وكلماته المنفلتة من أيِّ عقالٍ ضيّق، سيجعل لها وَسماً تُدرج تحتَه علمه، أو خانةٍ ما، تُصنّف حسبَ ووِفقَ دُرجِها المعياري.
مرةً من المَرات، وذاتَ مساء صيفيّ هادئ، كُنّا نستمتعُ بصبحتِه، كعادتنا ونحنً صبيةً. مررنا على الجانب القصي للحي ببعضِ شاباتِه المُمتلأنَ بالعاطفة، لم يتجاوزنَ بعدُ عتبة الثلاثين المُخفية، كماتُبيِّن ملامحِهنَّ الفاتنة، فأوقفنه، طالبينَ منه، الدّعاء لهن بتحقق قدوم فارس الأحلام البعيدة، في أقرب وقتٍ مُمكِن. ولكنه، على غير عادتِه في مسألة الدُّعاء رفضَ مُعلقاً: بأنَّ فُرسان أحلامهنَّ لن يقدمنَ مُطلقاً من أجلهنَّ. ماجعلهنَّ يبدينَ انزعاجاً مًصطنعاً إزاء ما يُقوله هذا العجوز الأبله، فأخذنَ طريقةً أخرى، للتسليّة معه وتمضيّة الوقت. طالبينَ منه هذه المرّة، وضعَ نفسه، محلَّ فارِسَ كُلاً من هُنَّ على حِده، لدقائق معدوداتٍ، ماجعلَ الباب ينفتِح أمام مجالٍ آخر، هو مجالُ الجنس والحب في ليلة الدُخلة، الذي أظهرَ في نِقاشه حوله قاموساً بذائياً على نحوٍ فاحِش، أشعلَ فيهنَّ نار الشهوة أكثر حدَّ بلوغ ذروتِها الحَراريّة. ماجسَّد لنا معه، نحنُ معشر الصبية، فيما بعد، مجالاً مُشوّقاً، طالما أحببنا النقاش حوله، ولكن دون جدوى، لشدّة تعففيّة الكِبار الأخلاقوية الأبوية. فأصبحنا فيما بعد ذلك، نطرحُه في نِقاشاتِنا الساذجة معه، ونُوِّظفه في شتائمنا الصبيانية المُتبادلة معه، دونَ أدنى خشيةٍ ردعيّة، من أيِّ جهةٍ كانت.
***
هكذا هو، يسهلُ وصفه، بقدرما يصعبُ، لكثرة تجسّد كُل الحالات على تنوّعها فيه. إنه عند النّاس: طفلٌ كبير، ووليٌ مجذوب. ودوريشٌ مجنون، ومُهرطِق شيطاني، ومُتسوِّلٌ مسكين. لكنَه في الحقيقة، ليسَ أياً من هؤلاء. إنه إن كان ليكون فهو وحسبْ هذا فقط. وأيُّ تحديدٍ آخر َله، ولهويتِه وحالتِه، فإنه لايعدو أنْ يكون سجناً له في إحدى القوالب الجامدة التي طالما رفض، في سلوكه المُرتجل، وهذياناتِه اللاّواعية.
في يومٍ من الأيام، بعد غياب عهد الطفولة السّاحر، سألتُ أحدهم عن مصيرِه، فأعلنَ جهله. ولكنَه قال لي شيئاً سيبقى راسخاً في ذهني بعد ذلك: إن مصيرَه لايتحدّد في شكلٍ واحِد، الموت/الحياة، الضياع/الوصول. الأهم أنه ذكرى باقية. لتعلمَ ذلك ياولدي، فذلك المسكين، لايتحدّد مصيره الحياتي، يكفي أنه ذكرى باقيّة!

نقلا عن مدونة الكاتب