في ذكرى النكبة مجددا

جمعة, 2015-05-15 05:15
د. عبد الحميد صيام

1. تمر ذكرى النكبة هذه الأيام وبالكاد يشعر بها أحد أو يذرف عليها دمعة ً أحد. فالحرائق المشتعلة حديثا تشغل الذهن والعين عن حريق أقدم. فحيثما تولي وجهك فثمة حريق أو انهيار أو انفجار أو احتلال. لكن النكبة الأصلية المتمثلة في ضياع فلسطين وقيام دولة غريبة على أنقاض شعب ووطن تظل أم النكبات جميعا. هي الجرح النازف أبدا الذي أوهن الجسد العربي بكامله. هي الكارثة الأصلية التي أنبتت كوارث فرعية ما لبثت أن تضخمت الفروع فأصبحت أكبر من الأصل. قضينا العمر ونحن ننتظر لملمة جراح النكبة الأم، فإذا بجراح نازفة أخرى تتدفق من كل مكان في جسد الوطن العربي . كان الشعب العربي كله يقف في يوم النكبة راثيا ومتضامنا ومُقسما على مواصلة النضال حتى تحرير فلسطين. تغيرت الشعارات وأصبح هم العربي أن يهرب بجلده من حرائق البلاد العديدة، حتى لو ابتلعه البحر. تغيرت الأهداف والشعارات والبرامج والأحزاب والمنظمات والفصائل واستبدل شعار «العودة والتحرير والثورة» بشعار «العودة إلى عملية السلام» واستئناف المفاوضات والتهدئة. 
كنا في ما مضى في غابر الأيام ننتظر أخبار المواجهات والبطولات، وأصبحنا اليوم ننتظر رواتب آخر الشهر، كي ندفع قسط السيارة وأجرة البيت وفاتورة الهاتف المحمول. بعد سبع وستين ذكرى لم يعد للعدد أهمية، فنحن نعيش جميعا في حقل من النكبات. أنبكي على نكبة فلسطين أم على نكبة سوريا؟ أنبحث عن حل لنكبة العراق أم نكبة اليمن؟ أنرثي لنكبات إخوتنا في ليبيا أم في لبنان؟ أنترحم على من سقطوا دفاعا عن الطائفة أو المذهب أو العائلة؟ أنسمي من قتل في تكريت أو في عرسال أو لحج أو سيناء أو درنة أو جبل الشعانبي أو إدلب أو عين العرب أو الفالوجة شهداء؟ ما معنى كلمة شهيد؟ ألم تفقد هذه الكلمة الساحرة معناها عندما نقارن من يسقطون في حروب ملوك الطوائف والمذاهب والعائلات مع قوافل الشهداء الذي «حملوا أرواحهم على راحاتهم ومشوا بها إلى مهاوي الردى، لأنهم اختاروا بين حياة تسر الصديق أو ممات يغيظ العدى»، ولا خيار ثالثا أبدا. شهداء من أمثال يوسف العظمة وعز الدين القسام وجول جمال وعبد القادر الحسيني والعقيد عميروش وعمر المختار وعبد المنعم رياض وسليمان خاطر وأبو علي إياد وكمال عدوان وماجد أبو شرار وحنا ميخائيل وفراس العجلوني وسناء محيدلي ودلال المغربي وحسيبة بن بوعلي. ماذا نقول لهم؟ أنخبرهم، ويا عارنا، أن العراقي يقتل العراقي والسوري يقتل السوري واللبناني يقتل اللبناني والليبي يقتل الليبي والمصري يقتل المصري واليمني يقتل اليمني والفلسطيني يقتله الجميع في غزة أو اليرموك أو نهر البارد أو رفح أو بغداد أو بنغازي. الفلسطيني يسجنه أخوه أو يسلمه للعدو إن تمرد على شروط سجنه. إسرائيل تضحك ملء شدقيها وهي تجلس على مقعد أثير على شاطئ البحر وتثني رجلا على رجل وتتفرج على العرب يذبحون بعضهم بعضا، ويساهم «داعش» بالنيابة في ذبحهم جميعا. وطيران التحالف القديم والجديد يلقي حمولاته أيضا فوق رؤوس الفقراء الذين لم يسعفهم الحظ بالفرار من أتون ساحة الموت العبثي.
2. النكبة الأصلية جاءت نتيجة مؤامرة صنعها الغرباء الأقوياء المسلحون بآلة الموت والعنصرية والاستخفاف بالعرب وتراثهم، مستغلين ضعفهم وتفككهم وأميتهم. لكن الجسم العربي الرسمي كان ضعيفا مهلهلا باليا رديئا، بل أحيانا متآمرا فتقبل النكبة بسهولة ووقع اتفاقيات الهدنة في غياب صاحب القضية الأصلي. بدأت الشعوب تصحو ببطء انطلاقا من أرض الكنانة، وكانت عاقدة العزم على تصحيح الظلم التاريخي، بدءا بمعاقبة المسؤولين عن النكبة وبناء القدرة الذاتية أولا، لكن الحلم مات مبكرا «فسارت في الجنازة قريش فهذا هشام وهذا زياد». باسم القضية قامت الانقلابات ومن أجل القضية قامت حكومات وسقطت حكومات. وباسم القضية أنشئت الأحزاب والمنظمات والحركات والجبهات والجمعيات والنوادي والفرق والصحف والإذاعات. دخل مصطلح التحرير كافة المسميات في الفصائل والحركات ليتم استبداله لاحقا بشعار الحقوق المشروعة وقيام الدولة المستقلة، ثم تغير أخيرا لينتهي إلى الاستمرار في عملية السلام و»الحياة مفاوضات». لقد أصبحت القضية مصنعا للزعماء والمشاهير والأبطال والإعلاميين والمعلقين والمنشدين والخطباء والمتظاهرين والديكتاتوريين والشعبويين والملوك والرؤساء والأمراء والسلاطين والوزراء والشعراء، ثم بدأوا ينفضون الواحد تلو الآخر بعد أن انهار فكر التحرير والتعبئة والحشد والمقاطعة ونظرية القاسم المشترك. تقدم الصفوف بعدها الانتهازيون والجبناء والمطبعون والعملاء والسماسرة وأغنياء الحروب. لقد وصلنا إلى زمن يعتبر من يتحدث عن التحرير والوحدة والأمة الواحدة مجنونا أو حالما أو جاهلا، ويشكل نكبة على الواقعيين والبراغماتيين وجماعة «الانسحاب الآن والتطبيع الآن والتعاون البناء الآن والتبادل التجاري الآن وتسهيل اغتيال الشرفاء الآن وجماعة الرد في الوقت والمكان المناسبين، وجماعة الطريق إلى القدس تمر من كابل أو من صنعاء أو من بغداد أو الكويت أو دمشق أو بيروت أو طهران، ثم نكتشف أن ليس هناك طريق أصلا حتى يمر منه أحد. 
3. النكبة أصبحت جزءا من البرنامج الرسمي العربي، عندما أعلن على الملأ أن حرب أكتوبر آخر الحروب، وأن 99٪ من أوراق اللعبة في يد أمريكا وأن القيادة الحكيمة التي وعدت الفقراء بالشقة والسيارة والعروسة والوظيفة بسبب توفير مصاريف الحرب قررت «أن تقطع عنهم جميع الذرائع كي لا يفروا من السلم». 
بعد اصطياد السمكة الكبرى لم يبق في الساحة لاعبون، ومن ظنوا أنهم سيملأون الفراغ سرعان ما وجدوا أنفسهم في حرب بعيدة عن ساحة المعركة الحقيقية، ما زاد من عمق النكبة طولا وعرضا». ألا يكفينا أن خسرنا النيل وواديه يا صاحب الرافدين؟ لماذا تصر أن نخسر معه دجلة والفرات؟ وهكذا كان. اشتعلت المعارك في غير مكانها وأطلقت المدفعية قذائفها في «الاتجاه المعاكس» وتغير تعريف البطولة وتعريف الجبهة وتعريف العدو وتعريف الشهيد وتعريف النصر وتعريف الهزيمة، واختلط العدو في الصديق وتداخلت الخيول القريبة من بعضها والدم يهطل شلالا من القلب ويصب في القلب نفسه.
انتشر المنظرون والعملاء والانتهازيون وتجار الحروب ليعمقوا موت جزء آخر من الأمة تحت مظلة البترودولار. تصمت ساحة فتتفجر ساحة أخرى بعيدة عن بوصلة مظفر النواب، التي تعـّرف الخونة انطلاقا من اقترابهم من، أو ابتعادهم عن القدس. تنفجر ساحة لا لزوم لانفجارها فيدفع أهل النكبة الثمن مرتين من المحتلِين ومن المحتَلين، وكأنهم أصحاب قرار في الاحتلال. يدخل إسفين ثانٍ في جسم الأمة بعد إسفين الكامب. ينتظم العرب طابورا خلف مسحلهم «جيمس بيكر» الذي أطلق صفارته، فإذا بهم يهرولون إلى مدريد ومنها إلى واشنطن ومنها إلى أوسلو ومنها إلى وادي عربة ومنها جميعا إلى الهاوية. تم بيع الانتفاضة بثمن بخس: الخروج من فندق سلوى التونسي مقابل رأس الانتفاضة «وباسم الله وباسم الشعب نعلن عن قيام دولة فلسطين المستقلة» – تصفيق حاد على مسمع من الشهيد عميروش والعربي بن مهيدي وديدوش مراد. 
3- أم المصائب أوسلو. شهادة ميلاد فلسطينية للكيان بعد الدولية والعربية. تقسيم جديد وانهيار جديد واختيار المقصلة، كما أرادها النظام العربي المتهاوي كي يتخلصوا من القضية وذكرى نكبتها السنوية. لقد تبين أن دولة الوهم التي أعلنت في بلاد الشهداء كانت مصيدة لنا ولهم وللأمة. تبين خطل الوهم الذي بلـّعوه لشعب عنيد كان «من حجر سيبني دولة العشاق- ليهدم دولة الغيتو». قبلت شروط كيسجنر التي تعهد بها للكيان من بينها، الاعتراف والتخلي عن الإرهاب. تقاطروا إلى غزة وأريحا وصفقوا كثيرا لبيل كلينتون وهو يدوس الميثاق في غزة 1998. إنها الانتصارات التي يرفعون إشارة الأصابع عنها بمناسبة وغير مناسبة. سمعت عصام سرطاوي بأذني في فبراير 1983 وهو يصرخ «إذا كان ما حصل في بيروت انتصارا فسيكون انعقاد المجلس الوطني القادم في جزر الفيجي». وقد دفع عمره مقابل هذا التصريح. وبالفعل لم يعد هناك حاجة لانعقاده بعد إعلان دولة الوهم عام 1988. لقد أنجزت المهمة على طريقة إنجاز بوش للمهمة في العراق من على حاملة الطائرات أبراهام لنكون يوم 1 مايو 2003. 
4- استمرت النكبة تولد نكبات والكارثة تفرخ كوارث ورموز الفساد يصولون ويجولون، حتى انفجر الشعب مطلقا انتفاضته الثانية ليصحح شيئا من خراب بدون جدوى. الخراب أصبح عاما وطاما. الأعداء يتجهون نحو التطرف والإسراع في ابتلاع ما تبقى «من أرض صغيرة مثل كيس من سحاب»، والقيادة الأقرب إلى رؤساء البلديات تتجه نحو الهوان والمزيد من التنازلات، وعندما وضعت وثيقة الاستسلام النهائي للتوقيع في الكامب نفسه اكتشفوا ضخامة المصيبة التي ورطوا أنفسهم وشعبهم فيها، وكان من الصعب ابتلاع السكين فتم إعطاء الإذن بتبليع السُم، وهكذا كان. اصطف بعدها الكرزاويون من رموز النظام العربي مع العدو في حروبه في جنوب لبنان أو في قطاع غزة، بل أصبح النظام العربي يعلق الآمال على إسرائيل لإنهاء أي مظهر من مظاهر المقاومة والحد من طموحات إيران النووية. حتى أن توماس فريدمان أمر أن يفتح الجرار ليخرج منه برنامج السلام العربي القائم على التطبيع، وحاول بيعه وهو يصرخ: «تنزيلات كبيرة» فمن يشتري؟ كان رد شارون أن ردوا بضاعتكم عليكم، نريد الأرض والتطبيع معا فمن لا يشتري علانية نبيعه بالسر.
5- بعد 67 سنة من الهوان.. وبعد أن فرخت النكبة العديد من النكبات ألم يحن الوقت للاعتراف بأن أكبر النكبات هي هذه القيادات البالية الجاهلة التي تعمل على خنق ما تبقى من شرفاء هذه الأمة، من القدس وحتى الدار البيضاء، الذين استطاعوا إلغاء زيارة الثعلب العجوز. هل من وقفة جادة أمام مصائب الأمة وأولها وقلبها «أم المصائب والنكبات» التي بسبها ومن أجل طمسها فجرت الحروب القبلية والطائفية والعرقية والمناطقية والدينية؟ ألا يستحق هذا الشعب قيادة جديدة تعرف كيف «يقاوم الأعزل وكيف يمسك قبضة المنجل». ولكن قبل هذا نريد أن نسمع جملة شجاعة تقول: «أيها المواطنون في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد قررت باسمي وباسم الشعب الفلسطيني والعربي التخلي عن هذه السلطة التي ما فتئت تعمل وكيلا للاحتلال لتعـفيه من مسؤولياته، كي يتفرغ للتهويد والضم وهدم البيوت وتشييد الجدار ومصادرة المياه وسجن الشرفاء. لقد أخطأنا – حاسبونا أو سامحونا. والله الموفق والمستعان».