الخطاب السياسي في المغرب : بحث عن السياسي المثقف

خميس, 2015-05-21 04:13
يونس حباش

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن أزمة الخطاب السياسي في المغرب، في شقيه الرسمي والمعارض إلى حد التخمة، لكن نادرة هي الدراسات المختصة في التواصل ونظريات الخطاب والحجاج التي تحاول مقاربة الموضوع وفق آليات التناول المعرفي، وهنا تتعمق الأزمة عندما يطغى التحليل الإعلامي السريع والمسيج بالانتماء الحزبي والسياسي، وبتقلبات أطراف التدافع السياسي، دون فهم لعمق التدافع القائم، وقد أضحى هذا النمط من التحليل ميسما يطغى على الفعل التواصلي في الفضاء العام سواء كان سياسيا أو غير ذلك.
أول شيء نتعلمه من علم النص وآليات تحليل الخطاب والتواصل هو ربط الفعل التواصلي بالسياق، وهو نوعان سياق أو مقام خاص، وسياق ثقافي عام يؤطر الأطراف الفاعلة بصفة عامة. فالمتتبع للمفردات المستعملة في الخطاب السياسي سواء الرسمي أو المعارض يجده خطابا دارجا بلغة العامة والتواصل اليومي، ومفردات ثاوية في التمثل الشعبي الشائع، تحيل على حقول دلالية متعددة، لذلك فمجرد ذكرها وبأسلوب خطابي خاص، يثير انتباه المواطنين في سياق يتسم بحدة الصراع بين قوى الإصلاح الديموقراطي والسياسي، وقوى الردة والنكوص إلى مسلكيات السلطوية والاستبداد.
وهو ما يجعل المواطن يتابع المنتوج الكلامي بمنطق فلكلوري ، وأحيانا يحلله ويرتبط بالسياسة أكثر، وهو في حد ذاته أمر إيجابي يكسر في ذهن المواطن صورة رجل الدولة والسياسة الذي يتقن اللغة الرسمية والمنسوجة بعناية ومفكر فيها من قبل، ويجعل التواصل والقرب ميسر بين الطرفين، غير أن استمرار اهتمام المواطن بالسياسة هل سيصبح ثقافة سياسية مستمرة أم سينقطع بانقطاع هذه الذوات والشخصيات التي تنتج هذا الخطاب أو بتغير مواقعها؟.
لا ننسى، من الناحية الوظيفية، أن أي خطاب سياسي يهدف إلى التأثير والإقناع، وتحكم الرهانات السياسية والرغبة في الإطاحة بالخصم واستمالة الرأي العام لوجهة نظر معينة على حساب الأخرى، وعدم ترك الفرصة لخطاب معين مؤثر في المجتمع من أن يسود وينتشر؛ لأن ذلك مرتبط بالانتخابات ، والرغبة في الوصول إلى السلطة لتطبيق البرنامج السياسي الذي ينتظمه التدافع أو التنافس السياسي والاجتماعي بين الفاعلين المنتمين لمشاريع وتصورات فكرية مختلفة.
يعلمنا درس البلاغة العربية قاعدة تسمى «مراعاة المقام»، من خلال قاعدة لـ «كل مقام مقال»، ومراعاة مقتضى الحال، كما أن علم الخطاب يجعل للغة وظائف تأثيرية تعتمد أساليب وتقنيات مخصوصة في إبلاغ الكلام، وهو الأمر الذي يجعلنا نتساءل حول الدوافع والحوافر الكامنة والمتحكمة في إنتاج خطاب سياسي لا يخرج عن دائرة الأزمة.
إن التفسير الأكثر دقة لهذه الصراعات اللفظية، هو استشراء حالة مزمنة من القصور الثقافي والفكري، وفقر الخيال السياسي لدى النخب المتصدرة للمشهد السياسي، وهي في الحقيقة صورة للتصورات والأنظمة الثقافية العامة المؤطرة للسلوك الجمعي؛ حيث تعتمل أنساق ثقافية جامدة، لاتعترف بقيمة الاختلاف والتواصل الحر الفعال في الفضاء العام، وفضيلة الحوار والإقناع والمحاججة العقلانية، وعدم امتلاك القدرة على إدارة التعددية السياسية والثقافية بالوسائل الملائمة.
هذا ما يجعل المتتبع للخطاب المعارض والرسمي في سياقه الثقافي والسياسي العام، و للصحافة الوطنية وآليات اشتغالها، يصل إلى نتيجة مفادها أن الفاعل السياسي عندنا لم يتحرر بعد من ربقة ثقافة سياسية قائمة على التنازع بدل التعاون، والاختلاف الشديد بدل الوحدة، السلطوية والاستبداد السياسي بدل الديمقراطية والتداول السلس على تدبير السياسات العامة وفق نتائج الصندوق العجيب/ صندوق الاقتراع، القمع والإقصاء بدل منح الحريات الأساسية للآخر، ثقافة سياسية قائمة على الزبونية والرغبة في التسلق السريع للسلطة والمحسوبية، بدل الكفاءة والحكامة في تدبير المؤسسات.
والدليل على عدم تغير بنية الثقافة السياسية لدى النخبة، هو الوصول إلى توظيف المرفوض في التواصل السياسي العقلاني، وهو السب والشتم ونشر المعلومات الكاذبة والزائفة وتمويه الرأي العام واستخدام الإشاعات وتوظيف أساليب احتجاجية لا تحترم لا القانون ولا الذوق العام فأين الدستور؟ وأين المؤسسات؟ وهو ما يعطي صورة حقيقية للمواطن على أن النخب السياسية والحزبية التي يمكن أن تدبر شؤون الدولة يوما ما، أصبحت فاقدة للثقة والمصداقية، فهو خطاب يكرس العزوف، بل والإقلاع أحيانا عن العمل السياسي الذي لم تعد له جاذبية.
إن أزمة هذا الخطاب تكمن في فقدان السياسي المثقف، وهي صورة عن الأزمة الثقافية والتعليمية العامة التي نعيشها، فكل أزماتنا ناتجة عن الوهن الحضاري والتخلف الفكري والفقر الروحي. وفي ظل هذا الوضع تضيع البرامج والمقترحات والبدائل والحلول، ولا نجد أي إبداع أوخيال سياسي قادر على التفكير الاستراتيجي في الإشكالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وبالتالي تغيب فكرة المواطنة، وتضعف الديمقراطية، ولا نؤسس دولة حديثة للخروج من نفق التبعية والهشاشة، وشرنقة نموذج تنموي وديمقراطي معطوب.
فالسياسي الذي لا يقرأ سوى الجرائد والمجلات، السياسي الذي لا يمتلك رؤية معرفية وتصورات فلسفية للمشروع الذي ينتمي إليه ويدافع عنه، فكيف سيدافع عن البلد برمته؟ السياسي الذي لا يمتلك الجرأة على ممارسة الاختلاف عمليا وليس كلاما فقط، وفضيلة الحوار والتواصل والاستماع والتعدد والتدافع المدني الحر للمشاريع المجتمعية، السياسي الذي لا يمتلك تكوينا علميا وأكاديميا جيدا، السياسي الذي لا يعرف تراثه وتاريخه، لا يقرأ أدبا ولا فنا ولا مسرحا ولا جماليات ولا فلسفة، وحتى وإن كان يمتلك الكفاءة والخبرة، فهو يفتقر إلى قيم التخلق السياسي في حدوده الدنيا، هذا «السياسي الفقير»، لا يترك وراءه سوى القبح في الخطاب والممارسة معا. وفي الأخير فكلامنا ليس عدميا ولا مطلقا فهناك سياسيون مثقفون، يمتلكون الخبرة العلمية الموثقة، والقيم السياسية السامية، وطنيون شرفاء وعلماء، مارسوا ويمارسون السياسة بنبل، فهؤلاء نحييهم بكل إجلال وتقدير.