تقديم واجب العزاء

جمعة, 2015-05-29 08:03
لحسن الجيت

فئة قليلة من المعلقين قدمت لي، مشكورة عبر منبر هسبريس، رسائل تعزية وبنوع من التجني والتشفي عن عدم مجيء شمعون بيريس إلى المغرب، ظنا من هذه الفئة أن الحركة الاحتجاجية هي التي حالت دون مجيئه. ولقد رأيت من باب الأعراف النبيلة والعادات الأبية أن أرد لهم واجب العزاء.
ولذلك، أنا بدوري لا يسعني إلا أن أقول لكم عزاؤنا عزاء واحد. ولو كان لحركتكم أي تأثير يذكر لما تطورت الأحداث، وفي ظرف أسبوعين فقط، في عكس الاتجاه الذي كنتم تريدون فرضه على المغرب أي دعوتكم إلى مقاطعة كل ما هو إسرائيلي أو تشتم فيه رائحة الإسرائيلي. وقد جارت الأيام الموالية على المناهضين للتطبيع وأحبطت أعمالهم وأسقطت مخططاتهم. وكم كنا نريد أن نخسئ ولا يخسئ خصومنا لكي لا نحرمهم من حالة انتشاء بانتصارهم الوهمي في عدم مجيء شمعون بيريس إلى المغرب. فالفضيلة أحيانا تقتضي منك جانبا من المروءة ونكران الذات كي تتحمل قسطا من المحن وإخفاقات غريمك أو تتقاسمها معه رأفة به من منطلق أنه، في جميع الأحوال، يعد شريكا لك في الوطن حتى ولو تباينت المواقف. فنحن هنا لسنا لكي نشمت في بعضنا البعض، بل لنتكاثف دفاعا عن مصلحة الوطن حيثما وجدت. لكن لا بأس أن نذكر في هذا الصدد ببعض التطورات التي عاكستهم لعل الذكرى تنفع هؤلاء الناس، وقد بلعوا ألسنتهم عنها.
1 ـ ما أريد قوله إن شمعون بريس حالة فردية وعارضة، وإذا لم يأت اليوم إلى المغرب فقد سبق له أن حل به وبكل ما يليق به من ترحاب. فلا تقدموا العزاء في قضية غير محسومة، بل العزاء ينبغي أن يقدم لكم في حالة ليست بالفردية ولا بالعارضة وهي إخفاقكم في تمرير قانون تجريم التطبيع. وهذه قضية مفصلية لها دلالات عميقة وهي أن المغرب أرض للتعايش والتساكن والتسامح الديني والفكري، هذا هو عمقنا التاريخي الذي ينبغي تحصينه من التيارات العنصرية القائمة على القومية والشوفينية.
وعدم تمريركم لهذا القانون قد جنب المغرب، من خطر الإقصاء، كما يؤكد في نفس الوقت عزم بلادنا على الاستمرارية في نفس النهج الذي تتميز به على غيرها من الدول من انفتاح على العالم الخارجي بما يخدم مصلحة الوطن. وهو ما يرمز كذلك إلى أن هناك رفضا قاطعا لعزل المغرب عن محيطه الخارجي أو إغلاق أبوابه في وجه زواره، سواء كانوا إسرائيليين أو فلسطينيين. فهم مرحب بهم جميعا، إلا من بعض أولئك البعثيين أو القوميين الذين ضبطوا مؤخرا على الحدود مع الشقيقة موريتانيا حاملين معهم هدايا من المتفجرات إلى بلادنا. فأين أولئك الذين أيديهم على قلوبهم خشية على أمن واستقرار المغرب؟ ومن هو هذا الذي ضبط ومعه المتفجرات أهو إسرائيلي أم سوري؟ أريد منكم جوابا حتى يكون الرأي العام على بينة مما تدعون. واليوم كالبارجة أحداث فندق "أطلس إيسلي"ما زالت عالقة في الأذهان، من كان من ورائها وأراد زعزعة استقرار المغرب؟ بالطبع ليس الإسرائيلي، إنهم مع كامل الأسف ونقولها بصريح العبارة "فلسطينيون".
2 ـ حدث متميز، وقد لا يرضى عنه شركاؤنا في الوطن من المناهضين للتطبيع وكأن الأقدار لا تريد أن تطاوعهم، ويتمثل في مشاركة شمعون بريس في أشغال منتدى "دافوس" المنعقد في البحر الميت بالمملكة الأردنية الهاشمية. فكان من الممكن أن يكون هذا الحدث حدثا عابرا لكنه فقد هذه الصفة وتحول إلى حدث بارز حينما رأينا شمعون بيريس كواسطة العقد في صدر ثلة من القادة والسياسيين العرب وهو عريس الحفل يتهدج وينفخ في ريشه. الرجل يتقدم الجميع في الصف الأمامي وبجانبه رئيس حكومتنا السيد عبدالإله بنكيران الذي شرب "القهوة السادة" أي القهوة العربية من نفس الإبريق أو لربما من نفس الفنجان الذي شرب منه شمعون بيريس. بل أكثر من ذلك أن السيد عبدالإله بنكيران تابع باهتمام وبدون أي مركب نقص مع أشقائه العرب الكلمة الكاملة التي ألقاها السيد شمعون بريس بيريس على مسامعهم. وليس في ذلك أي عيب، فالسيد بنكيران أثبت بالفعل أنه رجل دولة وأبان عن واقعية وبرغماتية عالية مشهود له بها، فلم يتعامل مع الحدث كزعيم لحزب إسلامي معارض لإسرائيل بل كرئيس حكومة لدولة المغرب. وهنا يزداد إعجابك بالرجل وتقديرك له.
ومن جهة أخرى، حينما زار شمعون بيريس المملكة الأردنية الهاشمية، لم نر شعب هذه المملكة الشقيقة اهتز وانتفض ضد هذه الزيارة مثل ما فعل بعض المراهقين سياسيا في بلادنا. فالأردنيون منسجمون مع أنفسهم ومع سياسة بلادهم ومنخرطون كل من موقعه في مصلحة بلاده، ولا يشوشون عليها. فهم أردنيون قبل أن يكونوا شيئا آخر، بل وتعيش معهم نسبة كبيرة من الفلسطينيين، فعلى سبيل المثال في عمان وحدها هناك ثلاث مخيمات: مخيم الوحدات 300 ألف، مخيم البقعة 230 ألف، مخيم الحسين 130 ألف فلسطيني. وبالرغم من أنهم أصحاب قضية لم ينزل ولو واحد منهم إلى الشارع ليحتج على زيارة شمعون بيريس للأردن، وذلك بعد أن أعلنوا عن توبتهم منذ خطيئتهم بتصفية رئيس الوزراء وصفي التل في أحداث أيلول الأسود لعام 1970. والمرحوم جلالة الملك الحسين بن طلال فك ارتباطه بالضفة الغربية منذ عام 1986 ليولي اهتمامه بقضايا مملكته، وبقي الرجل متواصلا مع الجميع وأوصى خلفه باتباع نفس السياسة وهي الوقوف على مسافة واحدة من كل أطراف النزاع. ولعل ذلك يشكل درسا في الوطنية، ودفعة قوية للفلسطينيين في أن يتولوا شأنهم بأيديهم. وبالفعل وفي وقت وجيز، وجد الفلسطينيون أنفسهم في واجهة الأحداث وكطرف أساسي في التفاوض مع إسرائيل.
3 ـ بطاقة عزاء ثالثة لمناهضي التطبيع بمناسبة حلول الوفد الرياضي الإسرائيلي لبلادنا. لم أكن أرغب في تقديم هذا العزاء الثالث حتى لا اُثقل عليهم هول المصائب، ولكن شاءت الأقدار عكس ما شاؤوا لكن أدعو لهم "الله يحد الباس". وبالفعل سجل الوفد الرياضي لإسرائيل حضوره في عاصمة المملكة المغربية بمناسبة الملتقى الدولي للجيدو. وقد ظلت أنفاس المناهضين للتطبيع محبوسة لرؤية منع هذا الوفد من الدخول والمشاركة في هذا الملتقى الدولي حتى تنفرج أساريرهم، لكنهم باؤوا بالفشل، فيما تبين أن التأخير الذي حصل على مستوى المطار لم يكن بنية المنع أو رفض السلطات المغربية السماح لأعضاء الوفد بالدخول، وإنما حصل لسبب مرده إلى المسدسات التي كان يحملها حراس الوفد الرياضي الإسرائيلي. فمبدأ السماح لهم بالدخول لم يكن موضع نقاش لأن القوانين المغربية لا تعترض على ذلك ، كما أنها لم تكن المرة الأولى لدخول المواطنين الإسرائيليين إلى المغرب، بل يوميا يتقاطرون من كل الجهات على المطارات المغربية واعتاد رجال الأمن والجمارك على استقبالهم صباح مساء.
وفي حدث دولي ورياضي كهذا، يصعب على المغرب، حتى ولو كان مناهضا للتطبيع، أن يمنع رياضيين لدولة كدولة إسرائيل من المشاركة في هذه التظاهرة الرياضية ، وإلا سوف يعرض نفسه لأقصى العقوبات ولمساومات على قضاياه الوطنية، وعندها لن يفيد لغط المناهضين للتطبيع وشعاراتهم الخطيرة في إخراج المغرب من عنق الزجاجة ومن المحن التي يمكن أن تترتب عن ذلك المنع. ولنا في ذلك سابقة، وهي أن معظم الحكومات الغربية تحركت ضد المغرب بمجرد سماعها أن هناك مشروع قانون لتجريم التطبيع سوف يناقشه البرلمان المغربي. لذا ينبغي دائما استحضار مثل هذه التبعات لأن لدينا قضية وطنية ومصالح استراتيجية واقتصادية واجتماعية تربطنا مع هذا العالم الغربي. ومن يدعو إلى غير ذلك فهو يدعو إلى الإضرار بالوطن ككل. وعلى سبيل المثال هناك ما يقارب خمسة ملايين من الجالية المغربية في الخارج معظمهم في الدول الغربية التي تتحكم فيها اللوبيات اليهودية. ولا نريد أن نشتري لأنفسنا عداوات مجانية نحن في غنى عنها. فمصلحة المغرب فوق كل اعتبار. وإذا نزل أي مكروه لا قدر الله فاستنجد آنذاك بالمناهضين للتطبيع الذين لا "يمونون" حتى على أنفسهم. وفي هذا الصدد، أطرح تساؤلا، وليس من باب التأكيد، ما الذي حمل البرلمان الهولندي على دراسة مشروع إبقاف العمل بالاتفاقية المبرمة مع المغرب في موضوع الضمان الاجتماعي. وقد جاء ذلك بعد أن اهتز هذا البرلمان، الذي يضم نوابا هولنديين يهود، ضد مشروع قانون تجريم التطبيع في برلماننا.
4 ـ الإنتكاسة الرابعة، كي لا أقول العزاء للتخفيف من المصاب الجلل، تكمن في زيارة نشطاء مغاربة مؤخرا لإسرائيل ويتعلق الأمر بكل من الناشط منير كجي، والأستاذ الباحث في علوم التربية عبدالرحيم شهيبي اللذان حضرا بدعوة من الخارجية الإسرائيلية لمؤتمر في موضوع معاداة السامية. وبناء على بياناتهما لم يكونا الوحيدان من منطقتنا اللذان شاركا في هذا المؤتمر، بل هناك تونسيون وأئمة مساجد من أوروبا، وشخصيات وشيوخ من عرب إسرائيل من ذوي أصول فلسطينية.
والحقيقة التي وقف عليها هؤلاء السادة خلال اتصالاتهم ولقاءاتهم وهي أن عرب إسرائيل يشمئزون كل الاشمئزاز من تدخلات العرب في شأنهم، داعين العالم العربي إلى الاهتمام بقضاياه. أما هم أي عرب إسرائيل ،ويشكلون 20 بالمائة في المجتمع الإسرائيلي، راضون عن وضعيتهم وعن أحوالهم في دولة إسرائيل. وهي وضعية أحسن بكثير من وضعية العرب في دولهم. واليوم يشكل عرب إسرائيل القوة الثالثة في الكنيست بعد الانتخابات الأخيرة التي عرفتها الدولة العبرية قبل شهرين، وهي ظاهرة سياسية نكاد لا نراها في الأقطار العربية ذات الأقليات.
إلى جانب ذلك، على المناهضين للتطبيع أن يستحضروا أمرا في غاية الأهمية وهو أن عرب إسرائيل مقتنعون بالدولة العبرية ومقتنعون بديمقراطيتها قياسا "بديمقراطيات العالم العربي". ويرفضون أن يكونوا مواطنين لدولة فلسطينية في حال نشأتها. وحق العودة لن يطبق ليس فحسب بسبب إسرائيل، وإنما بسبب الفلسطينيين أنفسهم والمتجنسين بجنسيات أمريكية وكندية وأسترالية وغيرها. ولا يخجلون من الجهر بهذه الحقيقة اقتناعا منهم بأن دولة فلسطين ستكون دولة الصراعات على النفوذ مثل الانقسامات الجارية اليوم فيما بين الفصائل من جهة، وما بين الفصائل وحركة حماس من جهة ثانية.
هذه بعض بطاقات العزاء، وكم كنت أتمنى أن تكون بطاقات معايدة لكن هذا هو المكتوب ويجب أن يتدبره المناهضون للتطبيع بمزيد من الصبر والسلوان. وعزاؤكم الوحيد للتخفيف عن هول ما خلقتموه لأنفسكم من مصيبة، هو أن تقنعوا عقولكم بأن المغرب ليس طرفا في هذا الصراع وأنا متأكد مما أقول بأن بلادنا مطلوب منها، فلسطينيا، أن تكون وسيطا حتى يتسنى لها التواصل مع جميع أطراف النزاع لجسر الهوة بين المتنازعين من أجل التوصل إلى حل عادل ونهائي. أما أن يعادي المغرب إسرائيل فهو يعني إقصاؤه من دور الوسيط ولن ترضى عنه قيادة السلطة الفلسطينية ، سيما وأنه يحظى بثقة وبمصداقية من طرف الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء. والفلسطينيون هم أشد الناس حرصا منا كي يكون المغرب حاضرا بقوة في إسرائيل لقناعتهم بصفاء نية المغرب وابتعادها عن أسلوب المتاجرة في القضية.

نقلا عن موقع آلبريس