الديموقراطية والتشدّد الديني

أحد, 2015-05-31 09:18
فريد الخازن

مفاهيم عديدة مبعثرة دخلت النقاش العام قبل الربيع العربي وبعده، منها الديموقراطية والحركات الاسلامية، العمل الجهادي بين التطرف و»الاعتدال» والعلاقة بين الدين والدولة. الربيع العربي والفوضى التي افرزها يطرح اشكالية الديموقراطية في زمن التشدد الديني. وهذه لم تعد مسألة نظرية، بل تم اختبارها في الممارسة.
بتبسيط شديد، الديموقراطية هي وسيلة لادارة الشأن العام وتكوين السلطة وتداولها بالطرق السلمية، وهي تعكس ارادة اكثرية المواطنين بوسيلة الانتخاب الحر لمسؤولين لفترة زمنية محددة. شهدت الديموقراطية تطورا في مفهومها المعاصر منذ نحو قرن مع توسّع قاعدة المقترعين وتخفيض سن الاقتراع والترشّح وازالة العوائق القانونية التي تحدّ من حرية العملية الانتخابية وشفافيتها. كما ان مضامين الديموقراطية المعاصرة تبدلت منذ الحرب العالمية الثانية، وهي حاليا ملازمة للاعلان العالمي لحقوق الانسان ولمعايير باتت تشكل إجماعا دوليا وتُعرف بالديموقراطية الليبرالية. الديموقراطية ليست مسألة نظرية او ايديولوجية وهي غير مرتبطة بمنظومة اجتماعية أو دينية تخص بيئات ثقافية معينة دون سواها، خلافا للتعريف المتداول في اوساط الحركات الاصولية، خصوصا المتشدد منها، التي ترفض الديموقراطية من منطلق ديني او تعتبرها نتاجا غربيا لا يصلح للمجتمعات الاسلامية. هذا التحريف لمفهوم الديموقراطية يلائم عادة طموحات الحاكم في الانظمة الاستبدادية، العلمانية أوالدينية.
الحركات الاسلامية المتشددة تعتمد قراءة شمولية تربط الانسان بالشأن الديني، في كل جوانب الحياة وفي الدولة والمجتمع، وتفسر الدين على هواها. الديموقراطية بنظر هذه الحركات لا تعدو كونها أداة ظرفية للوصول الى السلطة، وفي ما عدا ذلك تصبح حالة من حالات الخروج عن الدين وتعاليمه. انها الديموقراطية - الوسيلة بهدف الاستئثار بالسلطة وإلغاء القيم الليبرالية الملازمة لعلة وجود الديموقراطية. وهذا ما حصل في مصر بعد وصول الاخوان المسلمين الى السلطة وفي دول اخرى. وهكذا فعلت انظمة «علمانية» عندما قمعت الاسلاميين بعد فوزهم بالانتخابات، مثلما حصل في الجزائر في مطلع تسعينيات القرن الماضي.
لعل ابرز المعوقات التي واجهت «الربيع العربي» غياب الدولة القاطرة او النموذج الفعلي للتحوّل الديموقراطي في العالم العربي، خلافا لما حصل في اوروبا الشرقية بعد الحرب الباردة والقاطرة التي شكلتها انظمة الحكم الديموقراطي في اوروبا الغربية، الاتحاد الاوروبي تحديدا. في العالم العربي طغت الانقسامات المجتمعية على الواقع السياسي فجاءت الديموقراطية لتكشف شروخات داخلية عميقة تعود جذورها الى عصبيات مرحلة بدايات الدين وتكوين المجتمعات المعاصرة. كما ان الديموقراطية لا تنشأ بقوة السلاح، والتجربة الفاشلة ماثلة امامنا في العراق بعد الغزو الاميركي في 2003.

في زمن عصر النهضة والاحياء الديني في مطلع القرن العشرين، لم تكن الشروخات حادة داخل المجتمعات الاسلامية ولا بينها والعالم الخارجي، وتحديدا اوروبا التي كانت مسيحية وقتذاك. في تلك الحقبة شكلت اوروبا نموذجا في التقدم بنظر النخب الفكرية والثقافية وحتى الدينية في العالم العربي، ولم يكن الغرب مصدر الكفر والشرور، خلافا للقراءة السلفية اليوم، في زمن اصبح فيه الدين في اوروبا محيّدا في الشأن العام وشبه غائب في حياة الناس الخاصة. منذ سنوات جنحت المجتمعات العربية والاسلامية باتجاه التطرف والتقوقع في شؤون الدين والدنيا وهي اليوم اسيرة هذا الواقع. ليس المقصود هنا تبني مفاهيم العصرنة بلا قيد او شرط، بل مشروع الانسان - الفرد، الحر في خياراته والتزاماته وطريقة عيشه ونمط تفكيره، وهي مفاهيم تبدلت لا في الغرب وحده بل في ثقافات لا تنتمي الى الغرب ولا الى الاسلام، ابرزها اليابان التي هُزمت في الحرب العالمية الثانية واستسلم امبراطورها، الا انها لم تتراجع في ارادتها وثقافتها، بل استطاعت ان تستعيد دورها على المستوى العالمي وتخطّت من هَزَمها عسكريا في الاقتصاد وفي مجالات العلم والمعرفة.
المسألة الفاصلة ترتبط بالبيئة الحاضنة للمسار الديموقراطي او التشدد الديني. والمنطلق في الحالتين هو المجتمع، بدءا بالعائلة، النواة الاجتماعية الاولى، وكل ما يتصل بالشأن العام او نظام القيم السائد. ليس المطلوب استنساخ نظام قيم يعكس اولويات بعض المجتمعات الغربية، ومنها مثلا زواج المثليين. الا ان حق الفرد - الانسان بالحرية وبانتماءاته السياسية والثقافية ليس مسألة تخص حصرا العالم الخارجي، غير الاسلامي تحديدا. المواطنة والايمان يتكاملان، فلا إلغاء او تكفير في اي من الاتجاهين.
والسؤال، كيف يمكن للديموقراطية ان تنمو في ظل الصعود المتزايد لعصبيات الانتماءات القبلية والمذهبية والعرقية وسواها؟ وكيف يمكن ان تتطور في ظل نظام قيم لا يعطي المرأة حقوقها الطبيعية ويعتبرها صالحة فقط للجنس والانجاب وتربية الاولاد؟ وتزداد الامور سوءا في زمن باتت فيه الابادة الجماعية سلوكا متماديا تمارسه التنظيمات التكفيرية. المسألة تتجاوز كيفية تثبيت الديموقراطية في ظل غياب نخب ديموقراطية. ثمة حاجة لمراجعة شاملة لعدد من المفاهيم المرتبطة بالدين والدولة، ولا يبت بأمرها الا المرجعيات الدينية المعنية بحزم ووضوح.